استهلاك وقود الثورة؟

الأربعاء, 09 كانون1/ديسمبر 2015 18:42 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 كان أكثر شيء يقلق الضباط الأحرار العائدين من الدراسة في الخارج خلال عقد الخمسينات، أن الجيش ضعيف وأسلحته تقليدية جدا.  كانت الثورة تختمر في نفوسهم كما في نفوس عامة الشعب، غير ان نقطة البدء كانت تتمحور على الدوام في نظر أولئك الضباط من داخل بنية النظام وليس من خارجه، بالجيش لا بالشعب. يبدو انه الامتداد الطبيعي لفكرة اصلاح النظام التي بدأت في وقت مبكر، وتطورت في ظروف لاحقة، لتصبح فكرة هدم النظام الأمامي من داخله. ولمزيد من الدقة كان هذا الامتداد قد ورثته الحركة الوطنية بصورة غير مباشرة من الأمام يحيى الذي كان والده جزء من حكم الأتراك لليمن. اذا ما قارنا هذا الوضع الذي تأسست عليه ثورة 26 سبتمبر في الشمال، مع التغيير الجذري الذي اضطلعت به ثورة 14 أكتوبر في الجنوب، وهذا بسبب ان ثمة مستعمر أجنبي ونضالات جاءت من خارجه ومختلفة عنه كليا، اذا ما قارنا حجم النجاح الذي حققته الثورتين، نستطيع أن نضع الفارق لصالح النضال الذي يأتي من خارج بنية النظام ويتكفل بهدمه وطمس معالمه والبناء الجديد على انقاض القديم.

 نهاية الأسبوع الماضي قمت بزيارة خاطفة إلى مديرية المعافر التي أصبح مركزها "النشمة" مركزا للمقاومة في الجبهة الغربية من مدينة تعز. هناك لمست عن قرب كيف يتم استهلاك وقود الثورة في الهواء. لا يزال الناس كما عهدتهم قبل اربعة اعوام مخلصين لثورة فبراير ولديهم الاستعداد الكافي لمجابهة تحالف الثورة المضادة، الانتكاسات التي لطالما نالت من الكثيرين طوال الفترة الماضية، على العكس، لم تزدهم هناك إلا صلابة. تعتبر النشمة صورة مصغرة لصورة أكبر تشمل جميع مديريات ومناطق الحجرية، ما يعني ان التوهج الثوري حالة اصيلة في هذه الصورة التي تختصر مشهد أكبر ينطبق على كل محافظة تعز، وبدرجات متفاوتة يحق لنا اعتبار ذلك تكثيفا للمشهد الوطني برمته، رغم كل شيء لا تزال تعز رافعة للمشروع الوطني الجامع ولم تنل منها التشوهات الطارئة.

  كيف اذن يتم استهلاك وقود الثورة؟

 أحد رواد الأنثروبولوجيا، يدعى فرانز بوس، (1938) قال أن تحديد وجهة نظره من الحياة الاجتماعية يتم اعتمادا على سؤال: " كيف لنا أن ندرك الأغلال التي كبلتنا بها التقاليد؟ فعندما ندرك وجود الأغلال، سوف نتمكن من تحطيمها".

أحد هذه الأغلال هو أننا ورثنا ـ بطريقة غير مباشرة ـ نظرة أحادية للكيفية التي ستتم فيها عملية التغيير أو التي سننتهي إليها آخر المطاف. بمعنى أن النظام القائم بكل اشكالياته وبكل حقدنا عليه وايضا سعينا الحثيث لإنهاء حقبته، هذا النظام في تصوراتنا لا يزال هو العقدة التي تكبح قدرتنا على انجاز تغيير شامل، لأننا سنسعى ـ بحسن نية ـ للحفاظ على بنيته. لعل ثقافة النضال السلمي قد جذرت هذا التقليد ايضا، فهو نضال يفترض في نهاية الأمر أننا نسعى للحفاظ على مؤسسات الدولة وشكل النظام القائم، ونستبدل ما يمكن استبداله بأقل الخسائر، على أن الكفاح المسلح يفترض ان نتبنى وجهة نظر مختلفة.

اذا كان الضباط الاحرار قد حرصوا على الانطلاق من داخل بنية النظام، فإن النضالات الحالية ونحن في زمن التشظيات الكبرى، تسعى الى الحفاظ على هذه البنية، وهو أمر معيق لطموحات تلك النضالات كما سيكتشف كل من يزور المعافر ويقترب من الشكل الذي اختصرت فيه المقاومة عبر ما أصبح يعرف بـ"النواة العسكرية". توفر الحرب الأهلية فرصة ثمينة لهدم البنى السائدة، وهنا تكون الثورة قد قطعت نصف الطريق لأنها ستحدد أي بنى بديلة يجب أن تقام وستضطلع هي نفسها بتأسيسها. في المعافر وجد القليلون فرصهم للالتحاق بمعسكر التدريب، بينما ظلت الثورة خارج الأسوار. أعتقد أن هذه المناطق يجدر بها ان تصبح معسكر شعبي مفتوح أو أن هذه هي فرصتها. ان الحديث عن النواة العسكرية، يعني أننا اصبحنا اسيرين لمخاوفنا البسيطة، فهذه النواة كما سيقال لنا ستتكفل بحفظ الأمن والحفاظ على مؤسسات الدولة بدلا من أن نستيقظ وقد أصبحت في ايدي المليشيات. هنا نحن اصبحنا نقدم العربة على الحصان، فهذه النواة بقدر ما تقصي أي مشاركة شعبية في المقاومة يسمح بتطورها لتصبح ثورة، هي ايضا شكل مصغر لبيروقراطية النظام الذي يجب أن نتخلص منه. ندرك مدى الحاجة إلى جيش نظامي في نهاية المطاف ولكن ليس قبل أن يتم تقويض بنى النظام السائدة بما في ذلك المؤسسة العسكرية. في حرب العصابات ـ التي هي النواة الأولى للثورة ـ يكون الهدم هو الهدف الوحيد تقريبا، وعندما يقترب الهدم من نهايته، يقول جيفارا وهو الخبير بهذا الأمر، أن الضفر النهائي لن يكون إلا بجيش نظامي. هذا الجيش مختلف تماما عن أي جيش أو أي تقاليد عسكرية سادت في الفترة التي سبقت الثورة، بمعنى أنه يتخلق من رحم النضالات ويأتي تتويج لها. أما العكس فيعني أننا نستهلك وقود الثورة من أجل الحفاظ على البيروقراطية. وهذه البيروقراطية هي المشكلة الأولى التي حري بأي ثورة أو تحرك شعبي أن يوليه اهتمامه. ثم أن التسامح مع البيروقراطية ومنحها زمام القيادة مجددا نيابة عنا، سيعني أننا لا زلنا نؤمن بأن هناك كائنات فضائية ستأتي لإصلاح الخراب بدلا عنا، لأن التعويل على كائنات من داخل النظام نفسه يفترض أن يكون أمرا قد جربناه وذقنا مرارة فشله.  على المجتمع ان يبادر ويكتسب القوة اللازمة للهدم، بدون هذه القوة سنفتقد أي اساس حقيقي للبناء المختلف جذريا والمعبر عن مصالحنا الاجتماعية والسياسية. تقول حنة أرندت: "نحن نعرف، أو يجب أن نعرف، أن كل تناقص في القوة هو دعوة مفتوحة للعنف، ولو فقط بسبب أن من يشغلون مناصب السلطة ويشعرون بها تتسرب من بين أيديهم دائماً ما وجدوا صعوبة في مقاومة غواية استبدالها بالعنف".

قراءة 2190 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة