من يوميات السجن في الأمن السياسي في إب

الخميس, 10 كانون1/ديسمبر 2015 18:44 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

مرّ شريط رتيب خلال زمنٌ بطيء داخل الزنزانة، مثقلٌ بأحداث ومواقف وحكايات وسرديات وأشياء أخرى يتناولها المساجين، كنت أشاهدها وأسمعها لأول مرة في حياتي؛ لكن ما أشاهده وأسمعه كان يبدو لي مستهلك: مكرر وبليد، وكأني أعرف أحوال السجناء والزنزانة منذ أعوام مضت وليس من قبل سويعات معدودات.

كان المعتقلين أو المختطفين أو السجناء أو ما شاء لكم أن تسمونهم، يثرثرون ويهذرون مثل خلايا نحل لا تعرف "يعسوب" لها، مكونين حلقات صغيرة ومبعثرة بأشكال هندسية شبه بيضاوية فجّة تسيل منها رتابة قدّرية مثاءبة، وكنت أنا أترقب مجيء أحد أصدقاء - مجموعة صنعاء الذين لم يأتوا.

بعد زمن، ذابتْ وتلاشت كل تلك الأشكال الهندسية وعاد كلٍ إلى مهجعه بإنتظام مخيف، على إثره فتح الجلادون باب الزنزانة الحديدي الضخم على الأنقاض المتحركة في الداخل، أدخلوا إلينا شاباً هادئاً بملامح ريفية خلابّة، أجعّد الشعر، ذو عينين سوداوين، على وجهه إحمرارٌ قاتِّم، وإنهاك قاتل.

سأعرف منه فيما بعد، أقصد في ساعات المساء الأولى لليوم التالي، إنه وقتذاك كان عائداً من غرفة التحقيق وقد عُذّبْ بوحشية، حيث تناوّب عليه "الفاشيون" بالضرب والصعق بالعصي المكهربة وهو معصوب العينين و"مُكَلْبّش" اليدين إلى الخلف، إنه يدعىّ (م. ي) الفلاح اليمني البسيط وعامل البناء التقليدي المغيب قسراً عن طين قريته وأحجار جبالها، عن فأسه ومطرقته، عن أسرته ومتّكى جاره، في زنازين الإنقلاب الرجعي، في سجون "الإمامة" الباغية.

وسوف أعلم منه أيضاً، أنه أختطف وجاره من مقيل الأخير بعد عملية مداهمة قامت بها عصابات الهمّج "ميليشيا الإنقلاب الرجعي" للقرى والأرياف في محافظة إب "إذلال الناس وسحق كرامتهم، بذريعة البحث عن عناصر المقاومة".

أقتحمت "العصابات الفاشية" منزلهم البسيط، وتم إقتيادهم بالقوة من المقيل الريفي أمام أهاليهم إلى أقبية السجن المديني، كأسرى حرب..!

إنه عضو قديم في مجتمع الزنزانة رقم واحد إذاً، وليس سجيناً جديداً كما أخبرني حدسي بادئ ذي بدء يا أخي في الحرية.

أما أنا في أغلب ساعات ذلك اليوم - اليوم الأول - فقد كنت صامتاً مثل "حجر ضاحة" قذفت به الطبيعة وسط "مِزْرَابّ" أخضر وطري.

أشمئز من تلك المحصلة "التراجكميدية" وأنزوي على مهل بكآبتي نحو الداخل مثل دودة قزّ، لا أمنحهم حتى أقل من إبتسامة إشفاق لعينة.

"أنا مكتئب يا رجال.. لا أستطيع قول شيء، ولا أحد يعرف ذلك سِواي"، كان ذلك هو كل ما أستطاع لساني النطق به بحزم، حينما لكزّني أحدهم بمرّح مبالغ فيه ولطف زائد - جعلا منه يبدو أبلهاً - محاولاً جري للحديث معه والأخرين.

سأتعرّف فيما بعد على هذا الشخص الطيب الذي خاض كفاحاً مريراً من أجل الحصول على (وجبة عشاء) لي من السجناء، الوجبة التي لم أتناولها بالطبع، كانت مكونة من "قرص روتي بحجم قلم ونصف كدمة يابسة".

كان صاحبنا هذا، يتمتع بصوت غنائي جميل، ويلوك بإستمرار بأغاني "أيوب طارش"، وأهازيج و"ملاّلة" المرأة اليمنية خاصة في ريف تعز، وسوف يقصّ عليّ لاحقاً، بشيء من المرارة، قصة إختطافه من وسط الشارع في مدينة إب وإهانته أمام الناس، وعن عبثية وجوده في السجن، بوجهٍ مغطى بالتجعدات والتوّرم: القهر والألم.

كانت بي رغبة للتقيؤ، إنني في حال ضيق وإنقباض شديدين، وليس لدي رغبة في الكلام، إن كآبة السجن الحارقة قد أنسكبت فيَّ دفعة واحدة، وقد أحسست بذلك، شيء ما إرتطم في أعماقي، شيء ما إحترق في روحي.

كنت مكتئب بحق، عصبي وفي مزاج ميت تماماً يا أخي، ولعل ذلك هو التفسير السيكولوجي الأقرب لِما جعلني أبدو صارماً غامضاً وشديد الحذر في التعاطي بأمور تبدو لي الأن هي مبعث للهزل، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أمور بالغة التفاهة وفائضة عن الجديّة، وإني لأرى الأن أنني كنت في تلك الحالة ليس أكثر من مجرد أخرق.

ومهما يكن من أمر إذاً، أقصد إن الأحكام التي يصدرها "الأنا" الموجود الأن "الطليق" على "الهو" الغائب "السجين" هي أحكام ترفيّه شديدة القسوة ومن قبيل المثالية، ليست للعدالة في شيء، وهي أقرب إلى جلد الذات وسحقها أكثر منها حكماً، كونها تقوم على قاعدة ما يجب أن يكون عليه فعل السجين لا ما هو كائن فعلاً.

وأنا ثابت على الإعتقاد - الأن، في اللحظة التي أكتب فيها هذا - أن الذهاب إلى تنميط الزنزانة بالجدية ورسم خط محدد وواضح مثقل بالبطولة لفعل وسلوك السجين هو نوع من السخف الإنساني.. شيء من اللاجدوىّ والإستعباط.

والحق أقول لك يا أخي في الحرية: إن "إكتئاب السجن" ليس كمثل إكتئباتنا في الحياة العادية، إنه لا يشبه أي إكتئاب أخر يا أخي، ولما كان ذلك، كذلك، فإنه كأي إكتئاب يؤخذ في سياقه الشامل، أي أن له طبيعته وظروفه ومفاهيمه الخاصة به في إطار عملية الحركة الإكتئابية.

إن الحياة في السجن هي أقصى أشكال المقاومة وزيادة، فالشيء في الزنزانة مختلفاً تماماً عمّا هو عليه خارجها، ولئن كانت بعض الأشياء في الحياة اليومية العادية خارج السجن مضجرة ليّ وكئيبة، فإنها غدّت أضحوكة ومبعثا مرح وتسلية ليّ في ليالي السجن الجحيمية.

أجل يا أخي، إنها كانت تضيء ليّ زاوية مظلمة من حياتي الجبرية - حياة السجن - القاسية والموت البطيء الذي يبدو لا مفر منه، حيث ظل النبي يونس طريقه وتعثر في كربته في بطن الظلمات، النبي الذي عسّر عليه هضم الزمان وقضم المكان في جوف الحوت "فنادى ربه.." لكنني، وأنا المرمي في أقبية سجن جهاز الأمن السياسي في محافظة إب اليمنية في قبضة عصابة الإنقلاب الرجعي لم أنادي أحد، أو ألتمس العفو من أحد، ولم أطلب العون أو النجاة من أية قوة، سواء أكانت قوة على الأرض أو قوة فوق أرضية.

ليس من اللائق بأبناء "أيلول العظيم" خشية "ظلمات جوف الحوت" يا أخي، هذا هو طريقنا الوحيد، الذي لابد من إجتيازه، ومهما بدأ الطريق "مخلف صعيب" إلّا أنه لا خوف على "جمهوريتنا الحبيبة"، نحن جزء من كل والكل في حكم التاريخ الغير مرهون بالطبع في "ملازم" الجهل المركب وإدعاءي الإصطفاء السلالي والحق الإلهي الزائفين.. لكن قبل ذلك، هل جاع النبي يونس وألتهم الحوت، أقصد هل خبأها في بطنه بدلاً من جعل جوف الحوت مخبئاً له، كما تقول الرواية الدينية؟

لا أدري..!

أين هي السمكة إذاً..؟

قراءة 1903 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة