عبدالقادر سعيد رجل الديمقراطية والعمل السلمي

الأربعاء, 26 شباط/فبراير 2014 18:37 كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 السيرة الذاتية للمناضل الخالد / عبد القادر سعيد

الاسم: عبد القادر سعيد أحمد طاهر اللقب: أبو سند 

تاريخ الميلاد: 1941 م مكان الميلاد: الأغابرة القرية: الأغابرة 

العزلة: الأغابرة المديرية: حيفان 

النشأة: نشأ في القرية وتعلم بها كما تعلم الوطنية عن والده الذي كان أحد مناضلي 1948 م وأصيب بطلقة شظاياها ظلت تلازمه طوال حياته. درس في مدارس عدن - والتحق بحركة القوميين العرب وكان أحد قادتها البارزين.  

الدراسة: الثانوية - عدن. خريج كلية الثقافة العامه جامعة عدن 

الأدوار النضالية التي قام بها وشارك فيها:  

1 - تأسيس خلايا سرية لتنظيم حركة القوميين العرب "التواهي"  

2 - المسئول السياسي لتنظيم حركة القوميين العرب شمال اليمن - 1963 م  

. 3 - من مؤسسي تنظيم الجبهة القومية 

4 - عضو القيادة المركزية لحركة القوميين العرب بيروت عن شمال اليمن 1965 م.  

5 - مسئول القيادة التنسيقية للجبهة القومية وحركة القوميين العرب في الشمال. 

6 - مؤسس التنظيم الشعبي للقوى الوطنية  

7 - مؤتمر حرض 1965 م  

8 - مؤسس نادي الشباب الثقافي - تعز 66/1967 م.  

9 - المسئول الأول عن تنسيق المساعدات العسكرية والمالية لثورة 14 أكتوبر من تنظيم الشمال.  

10 - مسئول العلاقات السياسية مع الحكومة الشمالية لدعم سياسة الجبهة القومية. 

11 - الموجه السياسي والتنظيمي لأعضاء التنظيم في الشمال لملء الشواغر في تنظيم الجبهة القومية  

12 - المخاطب عن قيادة تنظيم الجبهة القومية مع سفراء . الدول في الشمال  

13 - المبادر لفك ارتباط الجبهة القومية بجبهة التحرير بسبب ارتباطها بالمخابرات المصرية 66/1967 م. 

14 - صاحب المبادرات في حل الخلاف بين جبهتي التحرير والقومية والحكومة اليمنية إبان الاقتتال الأهلي.  

15 - المبادرة للجبهة القومية بتحقيق المشاركة السياسية للأحزاب في عدن.  

16 - صاحب الدعوة لقيام جبهة وطنية للنضال السياسي. 

17 - السياسي الرافض لفكرة الكفاح المسلح في شمال اليمن. 

18 - المدافع عن الثورة المسلحة في الجنوب من منظور وطني، وملاءمة الكفاح ضد الاستعمار، وعدم ملاءمته بين اليمنيين، والرفض لفكرة الانقلابات. 

19 - رئيس فرع هيئة الرقابة على النقد - تعز.  

20 - مدير البنك المركزي اليمني - تعز.  

إضافات أخرى:  

1 - محاور موضوعي في المؤتمرات اليمنية للدفاع عن الثورة والجمهورية .. الجن - حرض ... إلخ 

2 - فرضت عليه الإقامة الجبرية لأكثر من مرة في تعز.  

3 - تعرض لمحاولات اغتيال متكررة. 

4 - عضو مؤسس للحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وعضو الأمانة العامة للقيادة المركزية للحزب والمسئول السياسي. 

5 - اعتقلته حكومة القاضي الحجري 1973 م مع رفاق له في الحزب 

6 - توفي - في ظروف غامضة بمستشفى جبلة المعمداني - في شهريونيو 1974 م، وأصدر حزبه الحزب الديمقراطي الثوري اليمني بيانا اتهم فيه أحد عقداء المخابرات المركزية الأمريكية الذي كان يعمل طبيبا في المستشفى بأنه وراء وفاته - بسحب جميع السوائل من جسمه - 

تاريخ الوفاة: يونيو 1974 م ظروف الوفاة: غامضة مكان الدفن: تعز  

أصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فلما تسجيليا عنه عام 1974 م

كتابات عن المناضل الجسور

 فتحي أبوالنصر

له صولات وجولات في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، ويكاد يكون المرجعية الأخلاقية الفائقة لكل رفقائه في العمل السياسي -ستينيات وسبعينيات القرن الفائت.

كانت روحه الفروسية دليلاً إلى ما يجب أن يكون، ويتفق مريدوه على أنه من أفضل النماذج التي أنتجتها هذه الحركة كمشروع وطني في ذهن مناضل عتيد؛ ما جعله واحداً من أهم رجالات الفكر السياسي الذين عرفتهم اليمن، وهو نتاج الانصهار القومي الاشتراكي الأسمى وطنيا.

مواليد مطلع الأربعينيات الذي انتمى مبكرا إلى أولى الخلايا التي شكلت حركة القوميين العرب في اليمن، كما ساهم على نحو بارز بتأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ككيان سياسي تقدمي في واقع متخلف يجلب الإحباط وأكثر.

يعتبر الحزب الديمقراطي من أهم وأوسع الكيانات الحزبية اليمنية التي خرجت من كنف حركة القوميين العرب في اليمن، وذلك الى جانب الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل، فيما كانت هذه الحركة وراء إنشائها أيضاً .

كثيرون تأثروا بألق عبدالقادر سعيد الذي جاء إلى عدن-حيث يعمل والده- من إحدى قرى عزلة الأغابرة والأعروق في الشمال، ليعيش هناك فترة الدراسة والتكوين المعرفي ، ثم بعد 62 عاد إلى تعز حيث كان من أبرز المهمومين سياسيا وثقافيا واجتماعيا بمصير الثورة والوطن، كما ظل التثقيف الذاتي همه الأول، يحث الآخرين عليه، والمصداقية رأسماله الشخصي في ممارسته للسياسة كإنسان "لا تعرف أحلامه الرائعة أي حدود".

في تلك الفترة، كان الرجل من بين قليل مناضلين بمثابة نقطة الالتقاء الروحي بين الجنوب والشمال، أو يمكن تشبيهه بالمهموم الوحدوي خالص النبل وطنيا، فإضافة إلى أنه حشد للانضمام للحرس الوطني من أجل الدفاع عن سبتمبر، كان من المساهمين الأوائل في انفجار ثورة أكتوبر.

لعل عام 63 كان حافلا للغاية في حياته السريعة، إذ كانت كتاباته الفكرية تهز الوجدان، وتجعله متفردا بكونه واحدا من أهم دعاة التسامح السياسي ورجل التحالفات الوطنية بامتياز. ولأن قضيته كانت كبيرة، ومنطقه الواعي كان حضارياً ومعتدلاً في مواجهة بنى التخلف وتعقيدات الواقع وأزماته، فقد كان بنقاوة نضالية عالية، كما كان ضد السياسة التي بلا معايير سوى الاستحواذ والفتك والحس الشمولي الغاشم.

في المجال الصحفي، تولى مسؤولية سكرتارية صحيفة "الثورة" لفترة ، كما أدار صحيفة "سبأ"، وفي المجال النقابي قام بتأسيس الاتحاد العمالي، بعد أن جعل من الحركات العمالية المتفرقة كيانا موحدا. كذلك في نفس الفترة ساهم بتأسيس المؤتمر الشعبي كأول حزب معلن في الشمال، قبل أن تقوم السلطات بحظره تحت مبرر منع الحزبية، ثم مع إعلان قيام الجبهة القومية لتحرير الجنوب، كان عبدالقادر سعيد أحد أرفع قيادييها المؤسسين.

آنذاك كانت مدينة تعز خيط الوصل بين الشمال والجنوب، كما كانت معقلا للحركات الوطنية، وللأفكار الحديثة للتحرر والتمدن والتقدم: وقتها ساهم عبدالقادر سعيد في تأسيس نادي الشباب الثقافي الذي كان مصنعا للجيل الوطني الجديد، لكن حكومة انقلاب 5 نوفمبر أمرت بإغلاقه –على نحو غاشم-بمجرد تعرشها على السلطة.

امتاز الحركيون اليمنيون عموماً –مثل بقية الحركيين القوميين في البلدان العربية الاخرى - بالتثقيف الفكري، والقدرة المشهودة للتوسع والاستقطاب، اضافة الى دعم وقيادة ومساندة جماهير بلدهم في معارك كفاحاتها التحررية بشكل عضوي لافت . ولقد عُد عبدالقادر سعيد الذي كان يفكر بطريقة" وماذا بعد ؟ " واحدا من الذين وقفوا مع عملية التحول الفكري القومي نحو اليسار- لحظة انطواء مرحلة في عمل ونضال حركة القوميين العرب- وفك الارتباط التنظيمي اليمني مع مركز قيادتها في بيروت، خصوصاً مع الوعي الموضوعي الذي طرأ بأهمية المسألة الطبقية في اعتبارات النضال والانتماء لقضية العدالة الاجتماعية، كما لضرورة توثيق نضالات الحركيين بالاعتبارات الوطنية بشكل خاص . وبما ان لحظة العالم هي للانعطاف الاشتراكي الحاد ، و للبناء الديمقراطي أيضاً ، كان تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني من معظم الحركيين العام 68: شيئاً فشيئاً انتشرت فروع هذا الحزب الواعد شمالا وجنوبا حتى كان من الفصائل القليلة لتي لها فروع خارج اليمن أيضا من الطلاب والمغتربين الوطنيين، رغم ظروف العمل السري الرهيبة، وتأثير الدعاية السامة المعادية لليسار بالذات.

عقب ذاك، كانت ثورة سبتمبر قد مرت بمآسٍ موحشة ومعقدة، إضافة إلى أن السعودية ظلت تمارس هوايتها المفضلة في مواصلة الصيد في المياه اليمنية العكرة عبر قواها التقليدية في اليمن، ولقد احتاج أبو سند (الاسم التنظيمي لعبدالقادر سعيد) معجزة كي يبقى على قيد الحياة قليلاً، فلقد كانت الاعتقالات على أشدها والتصفيات قائمة بجنون، غير أن الأوضاع سرعان ما تفجرت في صنعاء ومن ثم في بقية المدن الرئيسية، وراح ضحيتها العشرات والمئات للأسف، إن لم يكن الآلاف، ما بين قتيل ومعتقل ومفقود ومعذب ومشرد "بتهمة الحزبية".

بشجاعة ظل عبدالقادر سعيد يحذر من الطائفية لأنها لا تخدم أهداف الجمهورية الناشئة، كما ظل واعيا لأبعاد الصراع الطبقي ، بل ومعتبرا أن رحلة التطور في أي شعب رعوي عشائري، شاقة للغاية. ومع ايمانه الكبير بالطاقة الوطنية للانسان اليمني المهدور في ظل واقع التجزئة القائم والخطر الكبير على الثورة ، كان أحد أهم المؤثرين المدنيين في حركة المقاومة الوطنية التي تشكلت مع احتدام حرب الملكيين والجمهوريين، فيما كان صارماً يشدد على التفاصيل تنظيمياً، وله آمال بدور فائق لليمن في المنطقة، كما تميز بالنفس الطويل والرحابة والقدرة على الاستشراف والامل والتجاوز.

يقول عنه الأستاذ عبدالباري طاهر: إنه جزء أصيل من الضمير والوجدان الوطني. ويجمع كل من عرفوه على أنه رجل المهمات الاستثنائية بامتياز، في حين أن حضوره الفريد بين أوساط العمال والمثقفين والطلاب والتجار والعسكر والوجهاء ساهم كثيرا في انتشار شعبية الحزب الديمقراطي ووفرة المنتمين النوعيين إلى صفوفه.

بحسب شهادة للأستاذ أحمد قاسم دماج أحد أخلص رفقائه في محطات كثيرة: كان عبدالقادر سعيد حيويا وعميقا، ومثقفاً من طراز نادر، كما تمتاز مهارته بالتوازن الهادف والنقد الذاتي والاحتواء، وتلك البديهة العقلانية والعاطفية التي كالبرق.

عاش ابن المصور البسيط سعيد أحمد طاهر أحد مناضلي حركة 48، أشد بأسا وصلابة ونضوجا، فيما شخصيته الوفاقية وروحه التواقة للتنوير، جعلته يتصف بكونه كان مقنعاً على نحو آخاذ لعديد أطراف في الحركة الوطنية، وصاحب حضور متسق في التفكير والممارسة أيضاً، كما تفرد باعتباره عارم الألق في صفوف حزبه، إذ كان بجدارة، وهو القائد الشاب، على رأس زعماء الحزب الديمقراطي الذين جعلوه كياناً نوعياً على أكثر من صعيد، متميزاً باحتوائه لكوادر هامة سياسياً وثقافياً ونقابياً وعسكرياً واجتماعياً، وتحديداً لأكثر عناصر الحركة الوطنية حساً وإيثاراً وشغفاً بمسألة الوحدة الوطنية خلال تلك الفترة.

واضحٌ أن الرجل كان ملهماً لرفاقه تماماً، إذ تعامل معهم بروح خلاقة بلا شوائب تذكر، كما كان مهموماً بالمسألة التنظيمية ، ولم يكن تكوينه النفسي إلا زاهداً بالمقابل ، ولذلك رفض عدة مناصب رفيعة عُرضت له من صنعاء وعدن، ومقترحاً لها رفاقاً آخرين.

ولقد مثل الانفتاح النابه فضيلة من فضائل عبدالقادر سعيد في العمل الوطني، إذ كان على صلة وثيقة باتحاد الأدباء والكتاب مثلاً، كما كان على صلة محترمة بقيادات في تنظيم الضباط الأحرار، وأيضاً بالإخوان المسلمين، رغم أن هؤلاء رفضوا دعواته الحوارية المتكررة إلى لم الشمل السياسي على أسس وطنية في فترات كثيرة. وأيضا: كانت صلته طيبة بالبعثيين والناصريين، ومن كانوا في اتحاد الشعب الديمقراطي، وحتى قيادات في اتحاد القوى الشعبية كانت تكن له خالص الود نظراً لتفوقه في المبدئية الوطنية ذات البعد الثاقب، ولما تميز به تحليله الشخصي من الحكمة الفريدة.

المؤلم أنه اتهم بالرجعية من قبل عدد من الرفاق، حيث كان فكريا ضد العنف، فهو اليساري بلا تهور، ولذا وقف ضد من كانوا يريدون أن يكون الحزب الديمقراطي حزبا ثوريا صارما في مسألة الكفاح المسلح، كما وقف ضد الاستيلاء على السلطة في صنعاء بالقوة عن طريق الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، ولعل موافقة الغالبية من الرفاق على تأسيس هذه الجبهة هي أقسى اختبار يتعرض له الرجل. تلك الحماسة كما توقع آلت للفشل الذريع، كما خلفت آثارها التاريخية والمعنوية الفادحة، وفي هذا الصدد ثمة شهادة بالغة المعنى للفقيد الكبير جار الله عمر أحد قادة الجبهة حينها -أعلنها قبل وفاته للزميل صادق ناشر بعد أن توصل إلى أهمية وضرورة أن يكون الحوار والنضال السلمي هو العقيدة السياسية المثلى والأنجع- مفادها أن عبدالقادر سعيد "كان هو الأكثر نضجا وتطورا منا جميعاً " .

يشهد الجميع لعبدالقادر سعيد بالطبع أنه لم يكن حينها طرفا في صراعات الرفاق في عدن كذلك، إذ كانت روحه تتأثر حزناً لما يجري، فلقد كان تفكيره الدائم منصباً في كيفية إنقاذ الذات اليمنية من التدهور الوطني الحاصل والرقي بها وحدوياً وانسانيا ، بينما كان يهدف في كل ممارساته إلى تكوين موقف سياسي متين لمختلف القوى على الساحة وفقاً لقاعدته الأساس في السياسة والفكر: "تنمية الحس الوطني المبدع والمسؤول".

بذلك كان الرجل ذا خصوصية خاصة لمثاليته، وحرارة صدقه مع الذات والآخر، إذ لم يستسغ أبداً الفاشيات الثورية أو الدينية أو العصبوية، كما ظل موضوعياً في رصده للتباينات والفجوات بعين غير مأزومة داومت على ترميم الخرابات برجاحة لا تهدأ. والشاهد أنه ملك التقدير كله، معتدا بذاته كما ينبغي، فيما يكفيه أنه بممارساته السياسية والاجتماعية النظيفة والمستقبلية، أضاف قيمة أخلاقية وحيوية ستبقى خالدة في تاريخ الحركة الوطنية والحزبية في اليمن.

صاغ عبدالقادر سعيد اختلافه هذا بدأبه الحلمي الباهر -تأسيساً لمرحلة النهضة التي كان يتمناها– فيما أوجاع تغريبته جاءت فوق كل الاحتمال، قبل أن يدفع روحه مؤمناً بخياره الوطني المقدس، كافراً بكل الذين دخلوا حظيرة المرضى المتواطئين الذين كانوا يفضلون الانتماء إلى مربعاتهم العصبوية الأولى، للأسف، بدلاً من الانتماء السليم للأفق الوطني المفتوح.

منتصف السبعينيات رحل في مستشفى جبلة بإب، بعد أن قضى لفترة معتقلاً في تعز، وتعرضه للتعذيب الرهيب. ولأنه كان مع تطلعات الشعب، وضد المشاريع الصغيرة، وحتى لا تفقد ثورة سبتمبر مضمونها الاجتماعي الذي ما زال ضائعاً حتى الآن، وصل عبدالقادر سعيد إلى أن يكون في مواجهة حقد الأوغاد كل لحظة، خصوصاً وأن عدوانية الذين أرادوا تجيير الثورة والالتفاف عليها كانت تتفاقم على نحو مخيف ورذيل وبشع.

غير أنه الرجل الذي كان يضيف قيمة ملفتة داخل النسق الوطني العام -الطري بعد الثورتين- بسلوكه الوطني المتجذر والصلب، كما ظل يمثل جيله الشاب الطامح لمعافاة الوطن، مفضلاً الاقتحام والمواجهة لفضح كل التزويرات والمغالطات التي تمت على حساب الأمل المرجو منهما، خصوصاً مع تهميش وإقصاء وإخماد المناضلين الحقيقيين، أصحاب الرؤية والكفاءة والدافع الوطني والموقف السياسي الجاد والنزيه.

ظل عبدالقادر سعيد حتى أيامه الأخيرة مع الصف الذي لم يفرط بالقيم الجمهورية أبدا، تائقاً للحرية وللعدالة وللكرامة، كما للسوية الوطنية الفعالة، على الضد تماماً من كائنات الريال الأخضر، أو المغامرين السياسيين، أو كائنات العصبية المناطقية أو المذهبية.

هذا الراحل الكبير الذي دفن جثمانه بمدينة تعز في جنازة بدت كأنها مظاهرة عن حق المواطنة ومواجهة أشباح الظلام بعدم اليأس، ومعنى أن يكون الوطن للجميع، أقيمت له حينها جنازة رمزية مهيبة في مدينة عدن، شهدت مشاركة شعبية واسعة. كما تدفق الرفاق بالمئات من صنعاء وبقية مدن اليمن، لتقديم واجب العزاء، كاشفين جباههم التي لا تنحني للمخبرين، في تحدٍّ ساطع انتصرت فيه جذوة الشرف وعزيمة الرفض للاستلاب.

بالتأكيد، فإن اسمه العابر في صفحات التاريخ الوطني الحديث، سيبقى مضيئا على الدوام، وبانتظار الإنصاف اللائق، بصفته درساً وطنياً خلاباً وراسخاً بالمغايرة والمراس الصعب وقيم الأصالة والتجدد معاً، كما باعتباره حالة نضالية نادرة، تشبه أغنية جميلة تقض مضاجع أصحاب القلوب الخشنة، فيما يصعب على التاريخ إغفالها أو التعالي عنها، رغم أن منطق اليوم هو لتجليات الوجه الآخر للاستبداد وللاستغلال باسم الثورتين، حيث مشهد النشاز الذي تفوق –وما زال يتفوق- بالانتهازيين والسطحيين وكبار المحترفين من المنتفعين وقتلة الأحلام المشروعة الذين وقف عبدالقادر سعيد ضدهم، أولئك الذين أخلوا بقيم الجمهوريتين، فصاروا أبطالاً لمناخات البؤس الحاضرة ولعدم الوئام الوطني، كما جعلوا شخصية اليمنيين في الحضيض، بل ويكادون تماماً أن يدمروا ما تبقى من الذاكرة الوطنية المشرفة، وبما يمكن أن نزهو به من التاريخ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملف كتبة و اعده : منصور السروري

عبد القادر سعيد .. ماذا تبقى من سيرته النضالية النادرة ؟

ربما شاءت الظروف التاريخية أن تأتي أحداثها المصيرية لتقرير حياة شعبنا اليمني في الشهور الأربعة الأخيرة من الأعوام التي وقعت فيها تلك الأحداث المصيرية ابتداءً من ثورة أكتوبر فالاستقلال 30 نوفمبر 67 م حتى 8 فبراير 1968 .

وها نحن كل عام نحتفي بهذه الاحداث في أيام من هذه الشهور المتلاحقة .

وهنا استغل فرصة هذه الاحتفاءات لأذكر أن بين من شاركوا في تحقيق النصر في هذه الأحداث رجال صدقوا ما عاهدوا الوطن علية منهم من قضى اثناءها ومنهم على اثرها ومنهم ما يزال حياً ولكنه ابتعد عن الجيش و الحكومة وبحث عن مهنة أخرى يعيش عليها وهو يعانق السبعين أو الستين من عمره دون عائل يعيله ومنهم من يزال حياً غير محروم من حقوقه على الأقل انه يعيش مستوراً .

أقول ان من بين المناضلين الكُثر النادرين مثل كل شيء جميل مناضلين لم يتبق من سيرتهم النضالية (اسمائهم) فقط .

ومن هؤلاء المناضلين الذين توافرت فيهم السمات الذاتية والموضوعية في شخصياتهم القيادية الفقيد عبدالقادر سعيد أحمد طاهر الأغبري أحد أبرز العناصر القيادية لحركة القوميين العرب فرع اليمن والتي كانت بيروت مقراً لمركزها منذ تأسست في الخمسينيات .

التحق هذا القائد منذ البداية بالحركة في عدن ولعب دوراً كبيراً في أوساط النقابيين والمعلمين والطلاب والعمال في التوعية والاستقطاب .. حتى ان التحاق الشهيد القائد عبدالفتاح اسماعيل الأغبري بالحركة القومية كان عبر عبدالقادر سعيد باعتبارهما من عزلة واحدة وتربطهما علاقة تعارف وصداقة .

فـ عبدالقادر من الرعيل المبكر في صفوف الحركة بعد القادة فيصل عبداللطيف الشعيبي وسلطان احمد عمر (العبسي) و عبد الحافظ قائد القباطي و قحطان الشعبي وغيرهم .

مثقف وقائد نادر

منذ بضع سنوات تقارب العقد .. وأنا اجمع أية معلومات عن سيرته ومسيرته في صفوف الحركة القومية ثم المراكز القيادية التي تولاها في الحزب الديمقراطي الثوري وعن سيرته العملية فهو أحد مؤسسي العديد من المؤسسات الحكومية والوطنية كالبنك المركزي اليمني وكان رئيساً لفرع خزانة البنك بمحافظة تعز .

أما عن المتاعب والمعاناة التي عاشها أغلب سني عمره خاصة نهاية الستينات حتى منتصف السبعينيات ووفاته في حضن حكيم الأدباء والكتاب اليمنيين والمناضل الوطني المخضرم أحمد قاسم دماج الرئيس السابق لاتحاد الأدباء والكتاب .

أما عن سيرته التي كانت كلها معاناة خلال تلك السنوات فكل الذين كتبوا عنه للأسف الشديد لم يسلطوا الضوء على جميع جوانب حياته المليئة بالمتاعب والوعي والرؤية الثاقبة وكل من كتب عنه أو ذكره في سياق حوار صحفي ما أو في مجلس عابر لم يزد أو يذكر شيئاً جديداً .. فالجميع يقول ان الفقيد كان قائداً حركياً نادراً أو ذا مقدرة فائقة في أي حوار على اقناع الطرف الذي يناقشه .. أو كانت أخلاقه تجبر من يتعرف علية لا يملك إلا ان تجعله يحبه ويقدره ابلغ تقدير .

حكاية نادرة

مما سمعته على لسان كثيرين ان بعض القياديين أرادوا تصفيته لاختلافه معهم في وجهات النظر حول العديد من القضايا .. وكلف شخص للقيام بالمهمة .. وذهب الشخص الذي كلف بتصفيته اليه في منزله .. فاستضافه عبدالقادر سعيد و أكرم وفادته .. وشهد مجلسه الذي ضم عدداً من المثقفين والأدباء والسياسيين .. وقرر ان يصارحه بالحقيقة بعد ان رأى منه ما رأى من أخلاق وكرم وثقافة عالية ومقدرة في الاقناع ورؤية ثاقبة وعملية وممكنة في التعاطي مع الاحداث .. وكانت المفاجأة واعطاه المسدس الذي حمله قصد تصفيته وحذره ان يحترس ويأخذ الحذر ممن يخططون لتصفيته من رفاقه في العمل السياسي .. وسمعت أنه رد عليه (( إذا كان هذا القرار قد أتخذ من قبل الأمانة العامة فأنا أرحب به )) .

نفهم من هذه الحكاية ومن خلال كثيرين سألتهم عن الفقيد أنه كان يمتلك رؤية مختلفة جديدة في عدد من المسائل بعضها متعلقة بكيفية العمل السياسي داخل الحزب وبين اعضائه من ناحية ومن أخرى بين الحزب وبقية فرقاء الحياة السياسية في تلك الفترة ومما قاله (عبدالإله القدسي) : (كانت رؤيته في كل الأحوال ترتكز على الانتماء الذاتي ويقصد بذلك ان اليمني يعاني من ضعف الانتماء لذاته .. وأنه يعيش حالة اغتراب مع ذاته دائماً .. وهذه الرؤية تبلورت في إرادته التي كان يسعى الى اقناع الآخرين بها سواء داخل الحزب بين عناصره أم في طرحه ضمن مشروعه السياسي فهو أي الفقيد أراد ارساء ثقافة وطنية غير منغلقة وإنما منفتحة على كافة الجوانب الإنسانية .. ثقافة تستفيد من كافة التجارب الإنسانية في سياق البناء والتحديث ولا تنقل نقلاً ميكانيكياً) .

واذا ما صح الذي طرحه عبد الإله القدسي عن الفقيد باعتباره كان من الذين سمعوه وهو يطرح اراءه فهذا يضعنا أمام اعتبارات مبهمة ابعادها .. وهي اجابات لأسئلة ماتزال مغيبة عنا .

هل يخشى الذين كانوا يعرفونه ويختلفون معه في وجهات النظر ان يبينوا دقة رؤيته في ما كان يطرحه ؟ .. في وقت كانوا فيه يتهمون رؤاه بالقصور ؟ أم يخشون انهم سينكرون حقيقة رؤاه يومها ؟ ربما كانوا معذورين في حال الخوف من ان يزوروا ما كان يراه الفقيد .. وربما تعللوا ان الفقيد لم يكن يكتب منهجه الفكري والسياسي .. وهنا أريد منهم ان يعللوا بهذا المبرر .. المهم ان يكتبوا ما يبرر عزوفهم عن تسليط الضوء عنه .. حتى نوثق على الاقل ما يمكن ان نلحقه من سيرته النادرة .

عينة جديدة للحزن

ومما سمعته ان شاعر اليمن الأكبر عبدالله البردوني رثاه بقصيدة في ديوان ((لعيني أم بلقيس)) هي قصيدة ((عينة جديدة للحزن)) وأتذكر انه أيضاً كتب عنه حلقة خاصة في برنامج (مع الصالحين) عام 1997.

اخيراً

لأن الحديث عن قامة وطنية بحجم عبدالقادر سعيد حديث معقد .. ادعو كل من عرفه ان يكتب عنه ما يعرفه قصدية انصافه ميتاً وهو أدنى شيء نقدمه .. وكذا عبد الحافظ قائد الذي لا يقل عنه أهمية لأن انصافنا لمثل هؤلاء هو مقدمة اصلاحنا لأنفسنا والوطن .

مرثيات:

رثاه الشهيد المناضل عبدالفتاح اسماعيل

مَرْثِيَّة لَفَقِيْد الْحَرَكَة الْوَطَنِيَّة

عَبْدُالْقَادِر سَعِيْد أَحْمَد طَاهِر

من ديوان نجمة تقود البحر للشهيد المناضل عبد الفتاح اسماعيل

الافْتِتَاحِيَّة :

" لَيْس كُل مَن مَات مَات

فَهُنَاك مَن يَعِيْش مَيْتَا

وَمَيْت يَنْبُض حَيّا

رَغْم الْمَمَات "

(1)

الْمَوْت

هَذَا الطُّغْيَان

قُرْصَان لا يَخْجَل

فَض عُرْيَان

فِي وَضَح الْنَّهَار

يَغْدُو أَعْمَى

يُدَمِّر .. يُفْنِي

يَمِيْنَا ... يَسْارا

لَكّنَه لَو يَدْرِي ؟

بِكَوْنِه مَأْسَاة

أَنَّه يَصْنَع

لِسِر الْحَيَاة مَسَارَا

(2)

فِي غِيَابِ الرَّبِيْع

كُنْت الرَّبِيْع

تَشْدُو بِحُبِّ كَبِيْر

يَفِيْضُ عَلَى ضِفَّتَيْهِ الْشَّجَن

تُخَفِّفُ عَن الْنَّاسِ آَلامُهُم

فِي خِضْم مَآَسِي الْمِحَن

تَزْرَع فِي الْيَأَس

نَبْض الأمَل

بِأَرْض الْرَّجَاء

فَي رِبُوعِ الْوَطَن

* * *

وَفَجْأة ذُهِلْنَا

صُعِقْنَا

وَكَيْف نُصَدِّق ؟

بِأَن سَتَّار الرَّبِيْع

سَيُسدِل !

فِي صَنْعَاء وَعَدَن ؟

وَبِمَوْتِك

تُدْمَى الْقُلُوْب

وَتَنْتَحِب الْذِّكْرَيَات

وَكُل بِلادِي تَتَدَّثّر

بِحُلَّة حُزْن

تَنْعِي ضِيَاهَا

تَنْعِي فَتَاهِا

فَقِيْد الْيُمْن

(3)

فَقَدْنَاك

وَكُنْت تَحْمِل عَنَّا هُمُوْمْنا

كَشَمِ الْجِبَال

وَتُصَارِع بِعِلْمٍ .. بِفَنٍ

تُعَانِي

تُعَذِّب

تُرْمَى .. عَلَيْك قُيُودَا ثِقَالا

وَرَغْم الْعَنَاء

عِشْت حَرّاً شَرِيْفَاً

وَكُنْت عُنُوْداً صَبُوْرَاً

تُوَاصِل مَسِيْرَة شَعْبِك

جَنُوْبِا .. شِمَالاً

فَكَلَّت قُوَاك

لِكَثْرَة مَا قَد صَنَعْت

شَهِيْدا سَقَطْت

فَطُوبِي

طُوّبِي لِمَا قَد فَعَلَت

(4)

فَقَدْنَاك ..

وَمِن نُوُر عَيْنَيْك

نَسَجْت خُيُوْط الْضِّيَاء لَنَا

بِأَرْض تَشْكُو ظَلامَ الْضَّيَاع

وَمِن حَنَايَا قَلْبِك

غَزَلْت كَثِيْفَا حُبَّك

لِلْطَّيِّبِين

وَمَن يَسْمُوَا رِعَاعَا

لِتُغَيِّر وَضْعَاً

فِيْه أُنَاس يَمُوْتُوْن شِبّاعاً

وَأُنَاس جِيَاع

وَفِي أَزْمَاتِ المحُك

فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ

عِنْد هُبُوْب الْرِّيَاح

كُنْت تَتَحَلَّى بِعَزْمٍ شُجَاع

ولسَّفِينَة شَعْبِك كُنْت شِرَاعاً

وَرَغْم ثُلُوْج الْعَوَاصِف

كُنْت تُشْعَل نَاراً

تَشْتَعِل شَمْعَة

لَتُنَظِّم مَعْنَى الْصِّرَاع

(5)

لا .. آَه نَعَم

فَقَدْنَاك

يَا نَجْم الْضِّيَاء

يُنِيْر الْعَتَمَة

فِي كَبَد الْسَّمَاء

تَأَلَّق دَوْمَا بِصَمْت

ثُم هَوَى

أَحَقّا هَوَيْت ؟

مُحَال فَهَذَا الْسِنّا

يُضِئ الْدَّيَاجِي هُنَا

يَصْنَع جِسْرَا

مِن الْنُّوْر

لِلْقَادِمِيْن

وَكُل الْجُمُوْع

وَلِكُل صَدِيْق

وَشَعْبِك

يَا أَعَز حَبِيْب رَفِيْق

سَيَمْضِي بِعَزْم

إِثْر خُطَاك

لِيُكْمِل مُسَار الْطَّرِيْق

الْخَاتِمَة :

أَنْت مُت

يَقُوْلَهَا الْبَعْض سِرا

بِحِقْد وَفِيْه ارْتِيَاح

وَشَعْبُك يَعْرِف

أَنَّك حَي

فَهَل مَات

نُوُر الْصَّبَاح ؟!!

اليمن الديمقراطية

*عدن* - 30/مايو/1974م

.................. .......................

الدكتور عبد العزيز المقالح يرثي الشهيد عبد القادر سعيد بقصيدة بعنوان

"الرحيـــــل قبــــــل مجــــــيء الفَجْــــــر"

لماذا تعجَّلْتَ؟

مَنْ سَيُسَوّي ترابَكَ؟ منْ سيشيِّعُ جثمانَكَ؟.. اللَّيلُ أنيابُهُ مشرعاتٌ، بوارجُهُ تمخرُ البحرَ.. كلُّ الرِّفاقِ - بعيداً - يعانونَ في السجنِ في جُزُرِ النَّفْيِ. والأرضُ مهجورةٌ والرِّماحُ سليبةْ.

واقفاً هكذا مُتَّ، لنْ يدفنوكَ، وما أكثرَ الرّاحلينَ وقوفاً، وأقدامُهم تسحقُ اللَّيلَ، تدهسُ أشباحَهُ في بقايا الكهوفِ الرَّهيبةْ.

لماذا تعجَّلْتَ قبلَ مجيءِ الصباحِ؟

احترقْتَ لكيما تنيرَ، أضاءَ رحيلُكَ للقادمينَ معَ الفَجْرِ، ليتَكَ لم تحترقْ. كانَ صوتُكَ للقادمينَ دليلاً، وكانَ زئيرُكَ مقبرةً للوجوهِ الغريبةْ.

يا فماً، ويداً، وحساماً فقدْناهُ في وحشةِ اللَّيلِ.. هذا زمانُ العيونِ المدمّاةِ حزناً، زمانُ الفجيعةِ والقهرِ والسَّفَرِ الدَّمَوِيِّ على النارِ نحوَ النهارِ الجديدِ، زمانُ الرَّحيلِ إلى الفَجْرِ عَبْرَ بحارِ الظلامِ الكئيبةْ.

كلَّما انطفأَتْ شعلةٌ في الطريقِ إلى غَدِنا، تتضاعفُ أحزانُنا، ويطولُ الطريقُ، يحاصرُنا اليأسُ؛ لكنَّنا فوقَ جِسْرِ الدموعِ سنمضي، ستمضي الجموعُ التي أثقلَتْها المخاوفُ والحزنُ، لنْ يتوقَّفَ زحفُ الرِّفاقِ إلى مدنِ الحُلْمِ.. كلُّ فتى سوفَ يحملُ إنجيلَهُ - دامياً - وصليبهْ.

في فصولِ الأسى ترتديني، ووجهَ بلادي الكآبةُ، يصطادُني الشَّكُّ، أسقطُ دمعاً على شجرِ الرّاحلينَ فتورقُ ناراً، تصيرُ الدموعُ انتقاماً منَ الموتِ.. أنسى الكآبةَ، ألمحُ في ضوئِها شعبَنا يتمخَّضُ، يولدُ جيلاً جديداً له منْ ملامحِ هذا الذي ماتَ إيمانُهُ، وله منهُ ضِحْكـاتُهُ في الزَّنازنِ، إشراقُهُ في اللَّيالي العصيبةْ.

حينَ أذكرُ أحلامَنا في الظلامِ الذي راحَ، أذكرُ أحزانَنا في الظلامِ الذي جاءَ؛ أبكي.. فينتفضُ الحزنُ أعمدةً وجسوراً منَ النورِ، ينهرُني صارخاً:

- لم يمتْ هوَ ما زالَ حيّاً يعلِّمُنا حكمةَ الرَّفْضِ والحبِّ، يقرأُ في غدِنا، يتملَّى المصانعَ منْ حافةِ الفَجْرِ، منْ شُرُفاتِ الحقولِ الخصيبةْ.

أنتَ ما زلتَ حيّاً - إذنْ - بينَنا.

أتعشَّقُ صوتَكَ في الرَّعْدِ، في الرِّيحِ، في دمدماتِ القنابلِ. لا، لم تمتْ أنتَ، جسمُكَ في راحةٍ منْ عناءِ الحياةِ، وصوتُكَ ما زالَ حيّاً، يرودُ القرى الجائعاتِ، ويغشى بها مدنَ البؤسِ والطرقاتِ الجديبةْ.

وغداً أيها الرّاحلُ الحيُّ سوفَ تراهم.. رفاقَكَ، أشبالَكَ القادمينَ معَ الفَجْرِ، يخترقونَ المدينةَ كالنورِ، تحملُ أكتافُهم شُعَلَ النصرِ، أرغفةً للجياعِ، دواوينَ شعرٍ توزِّعُها الشمسُ للعاشقينَ هدايا، وشوقاً لأمِّ النهارِ الحبيبةْ.

ان شاعر اليمن الأكبر عبدالله البردوني كتب قصيدة في ديوان ((لعيني أم بلقيس)) هي قصيدة ((عينة جديدة للحزن)) وأتذكر انه أيضاً كتب عنه حلقة خاصة في برنامج (مع الصالحين) عام 1997.

مثلما تعصر نهديها السحابه **** تمطر الجدران صمتاً وكآبه

يسقط الظل على الظل كما****ترتمي فوق السآمات الذبابه

يمضغ السقف وأحداق الكوى****لغطاً ميتاً وأصداءً مصابه

مزقاً من ذكريات وهوى****وكؤوساً من جراحات مذابه

* * *

تبحث الأحزان في الأحزان عن****وترٍ باكٍ وعن حلق ربابه

عن نعاس يملك الأحلام عن****شجن أعمق من تيه الضبابه

تسعل الأشجار، تحسو ظلها **** تجمد الساعات من برد الرتابه

* * *

ها هنا الحزن على عادته**** فلماذا اليوم للحزن غرابه؟

ينزوي كالبوم يهمي كالدبى**** يرتخي، يمتد، يزداد رحابه

يلبس الأجفان، يمتص الرؤى**** يمتطي للعنف أسراب الدعابه

يلتوي مثل الأفاعي، يغتلي**** كالمدى العطشى ويسطو كالعصابه

يرتدي زي المرائي... ينكفي ****عارياً كالصخر شوكي الصلابه

* * *

وبلا حس يغني وبلا ****سبب يبكي ويستبكي الخطابه

يكتب الأقدار في ثانية**** ثم في ثانية يمحو الكتابه

للثواني اليوم أيد وفم****مثلما تعدو على المذعور غابه

وعيون تغزل اللمح كما ****تغزل الأشباح أنقاض الخرابه

* * *

من ينسّينا مرارات العدى؟ **** من يقوينا على حمل الصحابه؟

من يعيد الشجو للأحزان؟ من**** يمنح التسهيد أوجاع الصبابه؟

من يرد اللون للألوان؟ من**** يهب الأكفان شيئاً من خلابه

* * *

كان للمألوف لون وشذى ****كان للمجهول شوق ومهابه

قراءة 8048 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة