طباعة

الدولة المدنية في بلدان الإنتقال.. اليمن نموذجاً (ا-3) مميز

الأحد, 17 تشرين2/نوفمبر 2019 19:22 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

الدولة المدنية في بلدان الإنتقال:

اليمن نموذجاً*[1]

الفكرة والمسار

 

استهلال:

   قبل الربيع العربي لم يكن يستخدم مصطلح الدولة المدنية إلاَّ في الأدبيات الفكرية، ولم يُطرح كمشروع شعبي إلاَّ في الثورات الشعبية التي ابتدأت بتونس ثم مصر واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من البلدان العربية.

   وبتتبع طبيعة الثورة المضادة للتغيير وقيام الدولة المدنية في بلدان الربيع العربي نجدها متماثلة القوى ومتبادلة الأدوار، وتنتمي إلى التيار السياسي الديني، ففي اليمن، نجد نسقها الأول يتمثل في الجماعة الدينية المتشيعة الحركة الحوثية "أنصار الله" ، أما نسقها الثاني فيتمثل في التنظيم السروري (جماعة سنية)، وينطبق هذا الحال على سوريا. أما في تونس وليبيا ومصر، فإن التنظيمات الإسلامية السنية هي من تمثل الثورة المضادة. ولأن الدولة المدنية تأتي على أنقاض الدولة الدينية أو التسلطية أو القبلية، فإن مناهضتها لا تقتصر على تيارات سياسية دينية، وإنما تشاركها الموقف قوى أخرى عسكرية وقبلية، وهذه القوى موحدة الموقف في مناهضة الدولة المدنية في اليمن وإن كانت متصارعة على من يتولى منها الحكم.   

وعلى الرغم من نجاح الثورة المضادة من اشعال الحروب في اليمن وليبيا وسوريا، إلاَّ أن الدولة المدنية صارت مشروعاً شعبياً كفكرة ومساراً عملياً سيتحقق حتماً بإرادة الشعوب، وإن أعيق تحقيقه بعض الوقت.

   لقد تبنت الأحزاب والنخب السياسية فكرة الدولة المدنية في مختلف بلدان الربيع العربي، لكن مسار بناء الدولة المدنية لم يجسد حتى الأن إلاَّ في الدستور التونسي وفي وثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل ومسوَّدة الدستور في اليمن بصورة مباشرة وواضحة دون مواربة.

   تتناول هذه الورقة تبني مشروع الدولة المدنية كفكرة ومسار في بلدان الربيع العربي مركزة على نموذج اليمن.

    وحسبنا في هذا المقام أن نساهم في جعل الفكرة حاضرة والمسار هدفاً للمواطن العربي، ينبغي العمل على تحقيقه مهما كبر حجم المعوقات كالحرب في اليمن وسوريا وليبيا، والعمل على إقامة كتلة تاريخية للمجتمع المدني على الصعيد الوطني والعالم العربي، من خلال منظماته السياسية والمجتمعية، لمجابهة ثقافة دولة ما قبل القانون أو دولة الغنيمة وقواها المناهضة لقيام الدولة المدنية، سواء أكانت قوى دينية سنية أم شيعية أو قوى تسلطية عسكرية أو قبلية، أي مجابهة الثقافة الماضوية التسلطية سواء كانت باسم الدين أو الاصالة والتي تتخفى الثورة المضادة خلفها لخداع الشعوب. 

الفكرة:

   ثمة مشترك ومختلف بين بلدان الربيع العربي، فالمختلف يتعلق بالأسباب والمقدمات، أما المشترك فيتعلق ببعض الأسباب والوسائل، والمشترك الأكبر، هو هدف إقامة الدولة المدنية موضوع الدراسة.

من حيث الأسباب تتماثل بعض أسباب الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا في أهم سببين للثورة هما:

الأول-تسويد الفساد البنيوي، وصيرورته الدعامة الأولى لنظام الحكم، وتمكين قلة من محتكري السلطة، من احتكار الثروة والاستيلاء على المال العام والخاص باستغلال السلطة والنفوذ، الأمر الذي ترتب عليه ظهور شريحة متسلطة مستهترة بالمجتمع وبالقيم الإنسانية، استباحت كل مقدرات المجتمع، وجاهرت بإظهار الفساد ومظاهر البذخ بصورة فجة استفزت مشاعر كل مواطن. بمقابل فئة غنية مصدر ثروتها الفساد اتسعت مساحة الفقر والبطالة بين الأغلبية الساحقة من السكان لاسيما في اليمن ومصر وتونس، بل صار الإفقار منهجاً للسلطة في هذه البلدان.

الثاني-أن احتكار السلطة لم يتوقف على طبقة أو فئة أو قبيلة، بل ضاقت دائرته وأوقفت على الحكم الفردي العائلي، وبلغ تحدي إرادة الشعوب بتأبيد السلطة وتوريثها، وكان كل نفي من الرئيس في سوريا أو اليمن أو مصر أو تونس أو ليبيا لعدم التأبيد أو التوريث تقابله خطوات عملية لتأبيد السلطة للرئيس وتوريثها للأبناء والأقارب عبر تمكينهم من مصادر القوة: المال العام، التجارة، قيادة الأجهزة العسكرية والأمنية، التأثير السياسي، وتكليف الأتباع من السياسيين ومن المحسوبين على الفئة المتعلمة والمثقفة للترويج للتوريث والورثة، وتفردت خطوات التوريث في كل من اليمن ومصر وسوريا وليبيا، بتمكين أبناء الرئيس وأقاربه من السيطرة العائلية على قيادات أجهزة الأمن والتشكيلات العسكرية وشبه العسكرية، وفي سوريا تحقق التوريث بالفعل بنقل السلطة من الأب الى الإبن، وهو المثل الذي كانت تسير على ركبه السلطة في بقية البلدان.

   ومن حيث أساليب الاحتجاج الثوري، فقد لجأت الثورة اليمنية إلى نفس الأسلوب الذي أستخدم في تونس ثم مصر، والمتمثل في الاعتصام الدائم في الساحات العامة الذي بدأ في 11 فبراير 2011م وأضاف إليه اليمنيون العصيان المدني الذي نجح في العديد من المدن اليمنية، لاسيما في جنوب اليمن، لكن الثورة في سوريا وليبيا تميزتا بالانزلاق السريع إلى العنف بسبب السيطرة المطلقة للتيارات الدينية على مسار الثورة الشعبية.

   هذا الأسلوب في العمل الثوري جعل الثورة اليمنية تشترك مع الثورة في كل من تونس ومصر بالطريقة النضالية، المتمثلة في الثورة الشعبية السلمية، على الرغم من المحاولات الكثيرة من قبل السلطة العائلية في اليمن زج الثورة الشعبية في أعمال العنف، وذلك باستخدام العنف المفرط ضد المعتصمين سلمياً في الساحات العامة وضد المظاهرات والمسيرات، بما في ذلك ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

   يكون الأمر مدهشاً عندما يحدث أمراً غير متوقعاً، وكان مدهشاً في الثورات العربية، وعلى وجه الخصوص، في الثورة اليمنية، مشاركة المرأة وبفعالية ومشاركة أبناء القبائل في الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات بدون سلاح وعدم اللجوء إلى السلاح حتى في حالة سقوط الضحايا من بينهم ووجود مواجهات مسلحة خارج الساحات. وهو أمر نجح في تأجيل الثورة المضادة شن الحرب الشاملة لمدة ثلاث سنوات، كان الوقت فيها متاحاً لمنع الثورة المضادة وتجنيب اليمن الحرب، لو أن القوى التي كان لها الفضل في فرض الاعتراف بضرورة التغيير عبر الانتقال الديمقراطي استمرت متضافرة الجهود مرصوصة الصفوف. لقد أدت مواقف الخذلان بين صفوف القوى الداعمة للثورة في اليمن ممثلة في اللقاء المشترك، إلى نصرة استراتيجية الثورة المضادة في إيقاف عملية التحول وتحقيق الانتقال الديمقراطي لإقامة الدولة المدنية الحديثة، ونجاح الثورة المضادة في إيقاف مسار العملية السياسية بالحرب الشاملة، بتحالف ثلاث قوى: القوى العسكرية، ببنيتها القبلية والمناطقية وعقيدتها غير الوطنية، والقوى القبلية والقوى الدينية التي تتمتع بسلطات ونفوذ لن يستمرا في ظل الدولة المدنية بقيمها ومقوماتها المعاصرة والتقدمية، وساعد على ذلك مكان العاصمة صنعاء في وسط غابة من المعسكرات الرسمية  والقبلية التي كانت تتلقى قياداتها الأموال من الحكام داخل البلاد وخارجها، وتجمعت هذه القوى في تحالف النظام القديم والبائد، أي نظام علي عبدالله صالح وورثة النظام الامامي- الحوثيون، وهذا هو النسق الأول للثورة المضادة، وثمة نسق ثان يتمثل في نفس القوى مع الاختلاف أن القوى الدينية هنا ليست متشيعة وإنما سنية تتمثل بالتنظيم السروري[2] الذي يتربص دوره في التصدي لمشروع الدولة المدنية الحديثة واعاقة تحقيقه. من هنا، فإن مرحلة ما بعد النزاع واستئناف الانتقال الديمقراطي تتطلب تحالف وطني واسع لتحقيق مشروع الدولة المدنية، ومواجهة خطر القوى الثلاث، وقد يتطلب الأمر اختيار عاصمة جديدة للبلاد تمنع سهولة الاستيلاء عليها كلما استدعت الحاجة للاستيلاء على السلطة بالقوة القبلية، والأخذ بالعبر التي مكنت الثورة المضادة من:

1-      نجاح عائلتي الرئيس السابق علي عبدالله صالح والحوثي في جر اليمن إلى حرب أهلية وإقليمية، وهو خطر لم يعد يهدد مشروع بناء الدولة المدنية فحسب، بل صار يهدد بقاء الكيان والتراب الوطني موحداً، أي خطر فقدان حقوق السيادة وسلامة الأراضي.

2-      زيادة نفوذ القوى القبلية والدينية والعسكرية في ظل الحرب، وتضخم مصالحها المادية والسياسية، مما يجعل هذه المصالح مرتبطة بالحرب ومتعارضة مع تحقيق السلام الدائم، ومن ثم، تصير الحرب منسية على الصعيد الدولي، وحرب الكل ضد الكل على الصعيد الوطني والإقليمي، وتبرز ملامحها اليوم بثلاثة حروب حرب السلطة الشرعية مع الانقلاب، حرب السلطة الشرعية مع التنظيمات الإرهابية، الحرب بالوكالة عن إيران أو السعودية أوالامارات أو تركيا وقطر.          

   بيد أن المشترك بين الثورة اليمنية والثورات في بلدان الربيع العربي الأخرى، لا تجعل أسباب وعوامل الثورة في اليمن متطابقة مع أسبابها وعواملها في تلك البلدان، إذ كان للثورة اليمنية أسباب وعوامل خاصة، أهمها، فقدان الدولة في اليمن ركنان أساسيان قامت عليهما دولة الوحدة؛ هي الديمقراطية والشراكة، أي المكونان الرئيسيان للدولة المدنية أو أبرز قيمها ومقوماتها.

   من المعلوم أن الوحدة اليمنية قد تحققت بالتوافق وسلمياً وأرتبط تحقيقها بشرط قيام دولة ديمقراطية حديثة، وهو الشرط الذي طرحه وتمسك به الحزب الاشتراكي اليمني، وتم إنجاز المرحلة الأولى على طريق التحول الديمقراطي، وأوشك اليمن على تحقيق المرحلة الثانية والأخيرة من مراحل التحول الديمقراطي، وهي مرحلة الانتقال الديمقراطي، غير أن هذا الأساس للوحدة اليمنية ودولتها تم هدمه بحرب 1994م وتمت العودة إلى النظام التسلطي وحكم الفرد وعائلته، وحينذاك لم يكن يستخدم مصطلح الدولة المدنية كما حدث بعد ثورة فبراير 2011، لكنه كان يتم استخدام مفردات تتعلق بقيم الدولة المدنية: الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الإجتاعية ومقومات الدولة المدنية: دولة القانون، الشراكة، المواطنة المتساوية، إرادة الشعب مالك السلطة ومصدرها وغيرها من المقومات.

   بتعطيل شرط الديمقراطية بالحرب أُقصى شريك الوحدة- الحزب الاشتراكي اليمني كأحد طرفي المعادلة السياسية- الاجتماعية، وبإقصاء الحزب الاشتراكي اليمني تم إقصاء جزء من الوطن- هو جنوب اليمن ثم إقصاء كافة الأحزاب والقوى السياسية، ومن ثم تم إعادة اليمن إلى أزمة الشراكة، وهي أزمة ترتب عليها أمران:

الأول-أزمة سياسية شاملة تمثلت في انقسام جهوي حاد عبر عن نفسه بالحراك الجنوبي والقضية الجنوبية وبالحركة الحوثية وحرب صعدة، وانسداد سياسي نتج عن أزمة الشراكة وعن فقدان الأمل بإمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع، وفقدان الأمل بإمكانية الإصلاح الديمقراطي في ظل فقدان الإرادة السياسية للمتمسكين بزمام السلطة- الرئيس وعائلته، وغياب الإدارة الفاعلة للدولة وفي ظل نظام عائلي تسلطي، بعد أن تكررت الانتخابات محددة النتائج سلفاً وخوض الحوار بين السلطة والمعارضة من أجل الإصلاح الديمقراطي لمدة 13 عاماً دون نتيجة حقيقية.

الثاني-وهو أمر ترتب على الأول، ويتمثل في الفشل في الشراكة الدولية على الصعيدين الديمقراطي والاقتصادي، وهذا الأمر قاد إلى توقف العملية التنموية، كما توقفت بسبب الأمر الأول العملية السياسية أو الإنتقال الديمقراطي[3].

   من حيث مقدمات الثورة، فالثورة الشعبية في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا، لم تسبقها مقدمات كافية (باستثناء حركة كفاية في مصر) تجعلها متوقعة، ولم تكن لا السلطة ولا المعارضة مستعدة لمواجهتها أو تحديد آفاقها، وكان عامل المفاجأة إيجابياً من حيث أنه أدى إلى انهيار سلطة الرئيس وعائلته في كل من تونس ومصر في وقت قصير وسلمياً، لكنه كان سلبياً من حيث أن الأحزاب السياسية لم تكن قد وضعت تصورات كافية للتغيير ولم يكن لديها أسس متفق عليها لبناء الدولة المدنية الحديثة، أما في سوريا وليبيا فقد أتت الثورة في ظل فراغ المجتمع من القوى السياسية المنظمة أو إفراغه من الأحزاب الفاعلة كالشيوعيين في سوريا.

 

................ يتبع

ـــــــــــــــ

أ.د.محمد أحمد علي المخلافي

باحث أول-أستاذ في مركز الدراسات والبحوث اليمني

محام

 


* قدمت هذه الورقة في مؤتمر (الدولة المدنية في المنطقة العربية) والذي نظمه المعهد العربي للديمقراطية، المنعقد في تونس من 15-17 ديسمبر 2018م.

[2]- سمي التنظيم السروري بهذا الاسم نسبة إلى الإخواني السوري محمد سرور.

[3]- راجع. محمد أحمد علي: التغيير..الإصلاح الديمقراطي في اليمن. صنعاء2011م، صـــ19-61.

قراءة 3798 مرات آخر تعديل على الخميس, 21 تشرين2/نوفمبر 2019 17:04

من أحدث أ.د. محمد أحمد علي المخلافي