عبور المضيق ..في نقد أولي للتجربة (الحلقة الأخيرة)

السبت, 26 نيسان/أبريل 2014 19:56
قيم الموضوع
(5 أصوات)

 

آفاق..

الهوية على خارطة العبور

لم تكن الهوية إحدى مشاكل اليمن، وخاصة منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر. وحتى في ظل التشطير، كانت الهوية اليمنية الوطنية هي عنوان الارتباط المصيري المشترك، والتي أخذ اليمنيون على عاتقهم رعايتها والحفاظ عليها، سواء توحد اليمن أم لم يتوحد. كان المشروع الوطني، في صورته التي عبرت عنه الثورتان، قد حمل هذه الهوية بدرجة عالية من الحرص على جعلها أساساً لتحويل البلد إلى "وطن"، وقاعدة لنهوض شامل، لإدراكه أن تفكيك هذه الهوية سيرتب آثاراً ضارة على مستقبله واستقراره. ونستطيع القول إن الهوية كانت الوجه الآخر للمشروع الوطني، خلال الفترة التي ظل فيها ممسكاً بأطراف المعادلة، وذلك قبل أن يتعرض للتكسير بأكثر من معول من تلك المعاول التي خرج بعضها من مخابئه ليصفي حسابه مع هذا المشروع، بدعم من نخب الحكم التي كانت ترى أن هؤلاء هم حلفاؤها في مشروعهم التفكيكي الذي تصدى له المشروع الوطني في موجات من متكررة من الصراع والمواجهات والمعارك.

في هذه الأثناء، كانت الهوية تطرح من قبل البعض على خارطة الصراع كجزء من المشكلة، بل أحياناً باعتبارها المشكلة كلها. ولا بد من التأكيد اليوم على حقيقة أن تراجع المشروع الوطني في مساحة من الوعي الاجتماعي قد خلق حالة تشوش عامة بالنسبة للهوية. ففي هذه المساحة التي تراجع فيها هذا المشروع، أو اهتزت صورته، أخذت صور شتى من الهويات الصغيرة المحلية والثقافية والقبلية والمذهبية، والتي كانت قد انفتحت على هوية أكبر في إطار ذلك المشروع الكبير، تناوش وتشاغب لتكرس دوافع لصراعات جانبية تحرف المجتمع عن نضاله من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وحقوقه الطبيعية والسياسية، وحقه في الحياة الكريمة، والتقدم الاجتماعي والاقتصادي.

هذه الصراعات وإن بدت مجرد تعبير موضوعي عن مشاريع مشاغبة، إلا أنها، في الحقيقة، لم تتوقف عند حدود المشاغبة، منذ أن أخذ زخم المشروع الوطني يهتز بمفارقات جسّدها نظام يتحدث عن الوحدة والوطن، ويمارس على الأرض نقيض ذلك تماماً؛ بدءاً بتحويل النظام السياسي والاجتماعي إلى نظام فردي ـ عائلي، ومعه، في هذا السياق، إعلان الخصومة لكل عناصر المشروع الوطني، واللجوء إلى هذه الهويات للاستعانة بها في حماية مشروعه العائلي. في هذه الظروف عادت هذه الهويات، في صورتها العابسة والمتجهمة، إلى الظهور ضداً على الهوية الوطنية، وأخذت تستقطب قطاعات واسعة من الشعب؛ ولكن دون قدرة كاملة على التحول إلى حالة سياسية متكاملة العناصر.

لقد ظلت هذه الهويات تتحرك في إطار منسجم مع حالة الغضب المتراكم، الذي حكم سلوكها في كثير من الأحيان، بسبب قسوة المشروع الوطني وهويته الكبرى المصاحبة في التعاطي معها. لقد عملا على دمج هذه الهويات قسراً فيهما، ولم يسمحا لها بالتعبير عن نفسها، سواء بالأدوات الثقافية أو الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية أو حتى المذهبية، وهو الأمر الذي جعلها تتكور على نفسها داخل هذا المشروع وتتحين الفرصة للخروج من داخل عباءته كخصم في الوقت المناسب.

هذا، باختصار، هو واقع الحال فيما يخص موضوع الهوية، والانقسامات التي تجري على هامشها اليوم في صورة تنتج هذا الوضع المرتبك بتعقيدات مضاعفة، والذي يزيده ارتباكاً غياب الرؤية الاستراتيجية للقوى السياسية المعول عليها في حماية المشروع الوطني، الذي أعاد مؤتمر الحوار صياغته في الحدود المقبولة التي توافقت عليها هذه القوى.

على أن الطريق لحماية هذا المشروع لا يزال طويلاً وشائكاً, ويستلزم التخلي عن السلوك القمعي والهيمنة القديمين على ما يتفاعل في المجتمع من هويات ثقافية وسياسية واجتماعية ومذاهب دينية، في صيغتها المعبرة عن التنوع الذي لا غنى عنه لأي مجتمع كي يبقى حيوياً ومنتجاً لشروط  التطور؛ والمعبرة كذلك عن حضور مهم ولازم في تكوين الهوية الوطنية. وهنا تكمن نقطة البداية في عبور المضيق.

الذين يشعلون النار في هذه الهويات لتخليص "المشروع الوطني" منها، ربما لا يعلمون أنهم يحرقون المشروع نفسه، لتبقى هذه الهويات على نحو أقوى، وتكتسب بذلك شروط التحول إلى مشاريع، تبقى هي الحاضرة في المشهد وتبقى هي العنصر الحاسم في تقرير مستقبل هذا البلد.

وكذلك الحال عندما يفكر البعض في إشعال النار في المبنى الكبير لطرد هذه الهويات؛ يمكنهم، بدلاً من ذلك، استضافتها باحترام داخل غرف المبنى، وتكون مفتوحة على صالات واسعة تلتقي فيها، برعاية توفر لها شروط التعبير عن نفسها كجزء منه ومن هويته الكبرى. وسيتوقف عليه، بعد ذلك، خلق فرص تفاعلات حقيقية لتعايش يوفر شروط البناء والتقدم، دون حاجة إلى تحويل الهوية الكبرى إلى سيف مصلت في هذا المسار. مسؤولية هذه الهوية الكبرى هي رعاية التنوع، فبهذا التنوع وحده تستطيع هي نفسها أن تجتاز المضيق والعبور بالبلد إلى "الوطن".

شخصياً، لا أرى فيما استجد من ظروف، منذ نهاية الحوار، أن الشروط قد نضجت لعبور المضيق على ظهر هذا المشروع الكبير. صحيح أن هناك كثيرا من القضايا على كافة الأصعدة السياسية، الثقافية، الحقوقية، الاجتماعية، الاقتصادية، والمعرفية، المعبرة عنه، قد حسمت بالتوافق الذي عبرت عنه مخرجات الحوار؛ لكن سلوك كثير من النخب والقوى السياسية والاجتماعية، التي تقدم نفسها كحامل لهذا المشروع وهويته، لا يزال يمثل حالة أدنى من حاجة هذا المشروع كما عبرت عنه مخرجات الحوار. هناك وقائع عملية تحدثتُ عنها في مكان آخر من هذا الموضوع.

كان المعول هو أن روح الحوار قد نقلت الجميع إلى المكان الصحيح الذي يستطيعون منه مشاهدة المعطيات الفسيحة لمشروع بهذا الحجم والمضمون، وكذا رؤية الحاجة الفعلية لحمايته من خطورة أن تتحول تلك الهويات المتنوعة والعديدة إلى مشاريع معطلة للتحول إلى "وطن". لكن البعض، للأسف، فضلوا أن يبقوا في نفس الجحور القديمة التي سحبوا إليها مشروعي سبتمبر وأكتوبر، ومعهما مشروع ثورة التغيير، بما توفر لديهم من إمكانيات لجر عملية التغيير إلى مسارات أخرى، والعبث بموازين الحياة السياسية. غرقوا في الحديث عن تفاصيل اتهامات للآخر، باعتباره الشر، كي يبرروا بقاءهم في تلك الجحور. فالآخر عند هؤلاء مصلوب إلى عنوان أو مسمى؛ هو الشيطان، وهو الخطيئة، وهو الخائن، وهو الكافر... وهو كل هذا عندما يتوجب تصفيته بالحرب، أو بالاغتيال، أو بأي طريقة من طرق العنف البليدة الأخرى.

مغادرة هذه الجحور شرط لا غنى عنه لكل من يريد أن يصبح جزءاً من هذا المشروع، ومن هذه الهوية الجامعة. لن يدار مثل هذا المشروع من داخل هذه الجحور، ولم نسمع أن مشروعا بهذا الحجم جرى إنتاجه، أو إدارته، من داخل جحر أيديولوجي مغلق، أو جحور عائلية، أو عسكرية، أو نخبوية، ضيقة الانتساب!

لن تتشكل مثل هذه الهوية الجامعة القادرة على مواجهة مطبات مشاريع الهويات المتنوعة -القابلة للتحول إلى هويات انقسامية- غير في الهواء الطلق، وعلى مساحة أوسع من الحرية السياسية والفكرية، ومنظومة متكاملة من الحقوق التي يرعاها القانون، وعلى قاعدة راسخة من التنوع والديمقراطية التعددية والعدالة الاجتماعية.

على هذه القاعدة يتشكل، على نحو تاريخي، الحامل الحقيقي لمشروع ما بعد الحوار؛ فهل سيكون النضال من أجل ذلك مستوعباً من قبل مرجعيات القرار الأممي؟! أسأل هذا السؤال لأن النضال على هذا الطريق سيصطدم، ولا شك، بحالة السكون التي يفترضها القرار، في الوضع العام والذي سيعد تكديره عرقلة تستحق العقاب. فأيهما أجدر بالعقاب في هذه الحالة؟ أهو السكون العام الذي يشكل غطاء لتشوه وعجز الحامل الاجتماعي والسياسي لمشروع ما بعد الحوار؟ أم هو فضح وكشف هذا العجز بهدف خلق هذا الحامل الذي يتوقف عليه وحده تنفيذ مخرجات الحوار، والسير نحو تحويل البلاد إلى "وطن"؟!

البلد الذي يحوله أبناؤه إلى "وطن"، يصبح أكثر رسوخاً واستقراراً وأقوى إعداداً واستعداداً للنهوض. والبلد الذي لا تتحكم به نخبة، ولا تصادره أيديولوجيا، ولا تتوارثه عائلة، ولا تتقلد قيادته مشيئة تتصادم مع مشيئة الشعب أو تقمعها، هو الذي يتحول إلى "وطن" يجد فيه أبناؤه الحرية والعدالة والكرامة والأمن والاستقرار.

 

سالمين.. سقطرى.. و"الشيخ والبحر"

في نهاية هذا الجزء الأول من هذا الموضوع، الذي يتكون من جزأين (لم أنته من الثاني بعد)، سأروي جانباً من سيرة شكلت محطة من حياة طويلة، كان الحوار فيها هو مشروع العمر بالنسبة لي، خلال حياة طويلة من العمل السياسي والجدال والنقد والحوار والاتفاق والاختلاف، حرصت -من طرفي على الأقل- على ألا تكدرها خصومة الاختلاف ولا تستهتر بها نعومة الاتفاق.

الحياة، للذين يعملون، تعج بالمواقف. فيها الصح وفيها الخطأ. ونفس هذه الحياة، بحلوها ومرها، هي التي تفرز الصواب والخطأ، ولو أنها، في أحيان كثيرة، لا تفرق بين من يعملون ومن لا يعملون، لا يعنيها كثيراً في أي الخانات يقف الإنسان؛ ولذلك لا تفرز الصح والخطأ إلا بعد زمن، وبعد أن تكون قد عاقبت كثيرين لا يستحقون العقاب، وكافأت آخرين لا يستحقون المكافأة.

الأوطان هي التي لا يجب أن تنتظر فرز الحياة للصح والخطأ بمؤشر مرور الزمن؛ فالفرصة التي تضيع تبدد دهراً بأكمله، وتعرض أجيالا للضياع. والحياة بطبيعتها لا يمكن أن تسير في خط مستقيم للوصول إلى الهدف المنشود. في تفاعل تام مع مجرياتها؛ يكون هناك الخطأ وهناك الصواب. وهما لا يتقرران على الورق، وإنما في التطبيق على أرض الواقع، وبوجود الخطأ يعرف الصواب. فلو لم يكن هناك خطأ لما عرف الصواب، ولو لم تكن هناك معرفة لما عرف للجهل معنى, ولو لم يكن هناك قبح لما سمي الجمال جمالاً... فالشيء يعرف بضده, "وبضدها تتميز الأشياء". حياة البشر لا يمكن أن تستقيم إلا بوجود هذه النقائض معاً، وفي زمن واحد ومكان واحد. وفي إطار المجموعات، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، لا بد من وجود الفكرة وضدها. ففي مثل هذا التعايش بين الأضداد تبقى هذه المجموعات حية ومليئة بالحيوية. المهم أن تعرف كيف تدير تناقضاتها، وكيف تحل خلافاتها. عندما تكشف الحياة، من خلال الوقائع على الأرض، الصواب من الخطأ، على الذين أخطأوا أن يعترفوا بأنهم أخطأوا؛ لأن الفرق بين الخطأ والخطيئة هو هذا الاعتراف من عدمه، ولا يصر على البقاء في الموقع الخطأ إلا الذين لا يقيمون وزناً لأهمية أن نفهم الحياة في حركتها لا في سكونها. والحياة بهذا المفهوم لا تعترف بالصيغ الجامدة التي تدعي التعبير عما يجري فيها، ما لم يثبت ذلك الفعل على الأرض.

الجنوب سيبعث من داخله من يحمل قضيته. لا شيء يموت! وبلاد اليمن ستتحول إلى "وطن". واليمن هو الهوية التي نعود إليها حاملين أثقال تاريخ فيه من التناقضات والصراعات ما يجعلنا ميالين دائماً إلى الغضب من كل شيء بحثاً عن لا شيء.

شاركتُ في مؤتمر الحوار الأخير، وعملتُ على نجاحه، ودافعتُ عنه، وسأظل أنتقد بقوة التشويه الذي تعرض له، بما مورس في محطته الأخيرة من تكتيكات حملت روائح الماضي. وسأدعو إلى مقاومة كل محاولات تفريغ نتائجه من مضامينها الثورية والمدنية. كما سأواصل الدعوة إلى تصحيح ما خربته اللحظات الأخيرة. لأن الحوار هو مشروع عمري، منذ أيام الشباب، وفي بواكير الحياة السياسية، في ثانوية خور مكسر بعدن، في أوائل الستينيات، حيث كنت لا أرى السياسة غير حوار لا يهدأ، حتى في المحطات التي ينتصر فيها طرف، وتهزم فيها أطراف أخرى، وأنا أشاغب الرئيس سالمين رحمه الله، وكان مسؤولاً عن منظمة التنظيم السياسي الجبهة القومية/ عدن، وكنت عضواً فيها ورئيساً للدائرة الاقتصادية، بعد تخرجي في جامعة القاهرة عام 1971. كان قائداً، يدير التناقضات من حوله ولا يفرض قناعاته ــ ربما لجأ إلى ذلك في وقت متأخر عندما اشتد ضغط المشكلات. سألت في أحد الاجتماعات: لماذا لا يحاور تنظيم الجبهة القومية كل من اختلفوا مع النظام آنذاك؟! هب فوقي بعض أعضاء لجنة المحافظة؛ لكن سالمين قال بلهجته المحببة: "كلام بن نعمان صح، بس يقول لنا مع من نتحاور بالضبط؟"، وهي العبارة نفسها التي سمعتها من الصديق عبد الوهاب الآنسي، بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة، عندما ناقشت معه فكرة الحوار الشامل مع مختلف القوى السياسية قبل سنوات من قبول الفكرة بعد ذلك من كثيرين.

كان لي صديق من شبوة كثيراً ما حدثني، ونحن طلبة في القاهرة، عن أحداث كثيرة، جرت وتجري يومذاك في شبوة، أدت إلى نتائج اجتماعية شوهت مضامين الثورة، على أكثر من صعيد، حيث ترك الكثيرون ديارهم وغادروا. طلبت من سالمين أن يسمح لي بالذهاب إلى شبوة، في اللحظة نفسها التي أكمل فيها عبارته السابقة، عندما قال لي: "قدم لنا مقترحاً بمن نتحاور معهم". استغرب طلبي؛ ولكنه لم يسألني: لماذا؟ فقد أدرك ماذا كانت تعنيه شبوة في ذلك الحين. وبعد أن وافق، اتصلت بذلك الصديق، الذي جاء من درب "آل بو طهيف" ـ درب الفلاحين، حيث كان يزور والده المريض، والتقينا في عتق، وزرنا يشبم، والصعيد، وخورة العليا والسفلى، ومرخة العليا والسفلى، وحطيب، والهجر، ونصاب، وجزءا من عرمة، ومررنا على كور العوالق، في رحلات يومية مضنية، وزرنا بيحان، وعسيلان، ووصلنا إلى قريب البلق، وعدنا إلى عزان، وميفعة، وعين، والنقعة، وبئر علي... سجلت وقائع كثيرة منها تلك الربوع المهجورة عن بكرة أبيها والمخيم عليها حالة من السكون، والتي بدت كوشم أخذ الزمن يمحو ملامح خطوطه من على ظهر كف تغضن جلده بقسوة الحياة. سلمتها للرئيس سالمين، وما زلت أحتفظ بنسخة منها إلى اليوم. وفيها قلت إن العودة إلى الحوار هو الوحيد الذي سيفتح طريقاً إلى قلوب لن يترك اليأس أمامها من سبيل سوى المقاومة. بعد أسبوع، وأثناء اجتماع لجنة المحافظة، قال سالمين، مخاطباً أعضاء لجنة المحافظة، فجأة: "با نرسلكم يا أعضاء لجنة المحافظة إلى سقطرى، كل واحد يبقى لمدة شهرين هناك، والجدول بايطلعكم عليه الأخ علي سالم لعور"، وكان الأخير نائباً للرئيس سالمين في قيادة منظمة التنظيم في محافظة عدن. كنت على رأس القائمة، وكان عليَّ أن أغادر إلى سقطرى مع أول طائرة تطير إلى هناك، أي بعد أسبوعين على الأقل. في الاجتماع، الذي أعقب القرار، سألت سالمين عما هو مطلوب مني أن أعمله في سقطرى، قال: "شوف أحوال الناس واقرأ وفكر في الأشياء التي ما قدرتش تفكر فيها في الزحمة، هناك هدوء". لم أعتبر ذلك عقاباً، مثلما اعتبره الآخرون، فقد كان عندي يقين أن لسالمين هدفا آخر؛ ولكنني كنت في غاية الحنق، بعد أن تملكتني حالة من الشك؛ ففي اللحظة التي سمعتُ فيها مبرر الذهاب ربطتُ بين القرار وإلحاحي على الحوار، بعد زيارة شبوة. ومع ذلك، كنت لا أرى إلا أن لسالمين هدفا آخر غير العقاب. وحتى عندما حاول الأخ علي سالم لعور -الشهيد بعد ذلك في أحداث 1978- أن يلتمس لي عذراً للتأجيل، رفضت وأصررت على الذهاب في الموعد.

أمضيت في سقطرى شهرين بين الجبل والبحر. لم تكن سقطرى، يومذاك، مكاناً للتأمل؛ إلا بمقدار ما تكون قادراً على أن تغمض عينيك وفؤادك عن معاناة الناس، في تلك الفترة المبكرة. ومع ذلك، قرأت كثيراً، ومن أهم ما قرأت رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنجواي؛ فالصياد العجوز يصطاد بقاربه العتيق الصغير سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه، وإن استطاع، بمعجزة ما، فلن يتسع لها القارب، وقرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ. في الطريق إلى الشاطئ، هاجمت أسماك القرش سمكته. قاومها بقوة وعناد شديدين.. قاوم، وظل يقاوم، حتى وصل إلى الشاطئ، ولم يكن قد بقي من سمكته غير هيكل عظمي.

بعد أن عدتُ من سقطرى بأيام، عرفت أن جدول زيارات سقطرى لمن تبقى من الأعضاء، قد أُجِّل إلى أجل غير مسمى. وفي لقاء مع سالمين، سألني باقتضاب عن سقطرى، فقلت له: المهم ألا تصل إلى الشاطئ بهيكل عظمي. وأعطيته الرواية، وكان يقرأ كثيراً.

لم يعد لدينا خيار سوى أن نعبر المضيق، ونصل إلى الشاطئ، إلى حيث ينتظرنا "وطن" مؤجل؛ ولكن علينا أن نحسب حساب ألا نصل إليه بهيكل عظمي.

 

رابط الحلقة الرابعة

رابط الحلقة الخامسة

رابط الحلقة السادسة

-           كتاب جديد للدكتور ياسين سعيد نعمان، يُنشر في صحيفة "الشارع"، بالتزامن مع موقع "الاشتراكي نت".

 

 

قراءة 3025 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة