أخـــر الأخبــــار

 

هل سَتُفْلتْ اليمن من القبضة الطائفية؟؟ (1-2)

الثلاثاء, 28 تشرين1/أكتوير 2014 16:22
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

بات جلياً أن المنطقة العربية واقعة بين قطبي رحى, الأزمات السياسية والانقسامات الأهلية, التي تهدد نسيجها الاجتماعي, وتستهدف حاضر ومستقبل شعوبها. فعلى امتداد رقعتها الجغرافية تنشط الجماعات الأصولية وتتحرك بحرية واسعة في ظل غياب الدولة وسكونية المجتمع.

إن ما يشهده غير بلد عربي من صراعات سياسية, وتنامي أعمال العنف الديني, والقتل على أساس الهوية, وحالة التحشيد المذهبي, والضخ الإعلامي, وارتفاع منسوب الكراهية, فضلاً عن التدخلات الإقليمية والدولية المباشرة منها والمستترة, تدفع هذه البلدان دفعاً إلى المستنقع الطائفي. بل ما يؤسف له, أن الطائفية أمست في بعض البلدان (لبنان والعراق كنموذجين لامعين) قوة مادية تتحرك على الأرض, وتُحْكِم قبضتها على السياسة والمجتمع.

في لجة هذا المشهد الكارثي, يُطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن تنزلق اليمن إلى الطائفية؟؟

لدى البعض إجابة تكاد تكون حاسمة, مؤادها: أن اليمن لا توجد فيها طوائف, ولم يشهد تاريخها صراعاُ مذهبياً كالذي شهدته بلدان أخرى, بل على العكس من ذلك, فالتقارب والتآلف بين المذهبين (الزيدي والشافعي) كان القاعدة التي وسمت تاريخ اليمن المديد, فيما التباعد والتنافر بينهما كان الاستثناء, وبالتالي من المستبعد أن تدخل البلد في صراع طائفي.

قبل الحكم على صواب هذا الكلام من خطئه, يستدعي الأمر, معالجة متوالية من الأسئلة بهدف إبانة الصورة أكثر, بعيداً عن الإجابات الجاهزة والتفكير المقولب, ومن ثمَّ نخلص إلى تقييم موضوعي:

ما مفهوم الطائفية؟ كيف تتشكل؟ وبأي شروط وظروف تتحقق؟ وما أسبابها وعوامل تفجرها؟ وهل هي حالة أصيلة, أي سابقة على التنظيم الاجتماعي أم ناتجة عنه؟ ما صلة الماضي بها؟ وما شكل علاقتها بالحاضر؟ وهل هي  حالة ثقافية (دينية) فقط, أم أنها أشمل من ذلك؟؟

مفهوم الطائفية ومدلوله:

يلتبس مفهوم الطائفية عند كثيرين من الناس, فالبعض يعتقد أن الطائفية والمذهبية مفهومان متطابقان, وهما شيء واحد, فيما يفرّق البعض الآخر, على أساس أن المذهبية تعبير عن حالة انقسام كياني في بنية الدين الواحد (مثالاً: الشيعة والسنة في الإسلام), أما الطائفية فتتحدد بوجود جماعة دينية تنتمي إلى دين آخر غير الدين الرسمي للدولة (كطائفة اليهود في اليمن), وهذا غير دقيق.

فالطائفية, في معناها ومبناها, ظاهرة سياسية حديثة, نشأت في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معينة, وتتحدد بعدة محددات, فهي بنية عقدية إيمانية تستولي على عقول المنتمين إليها, فيعتقدون أنهم الفرقة الناجية (المنصورة), لأنهم يمثلون الدين الصحيح, وعقيدتهم صافية لا يشوبها شائب. وهي وفقاُ للمفكر عبدالإله بلقزيزـ بنية عصبوية تقوم على علاقات تضامنية بين من ينتسبون إليها, تتحول إلى جماعة مغلقة تتسم بانسداد وتحجُّر في رؤيتها إلى ذاتها, وإلى العالم من حولها, وميلها إلى التصرف كـ"أقلية" مُهدَّدة من الآخرين.

والطائفية مؤسسة تمارس أنشطة سياسية, وتحتاز مصالح اقتصادية, وتنتظم بعلاقات اجتماعية مميزة عن المجتمع, تنعكس في صورة قوانين وتشريعات, إنها بمثابة دولة داخل الدولة!

يتجلى الفارق الجوهري بين الطائفية والمذهبية, في أن المذهبية هوية ثقافية لجماعة دينية معينة, تتأطر في إطار المقولات الفقهية والكلامية ومنظومة الشعائر والطقوس والعادات العبادية الخاصة بها, وأبرز مثال عليها: المذاهب الرئيسية الأربعة في الإسلام, الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية, بينما الطائفية, غير ذلك, إنها الشكل السياسي العصبوي للمذهبية!

وعلى هذا, يمكن القول: إن انتقال المذهبية من ميدان التعبير الثقافي الخاص بجماعة دينية إلى الميدان السياسي, باتخاذها هوية سياسية وتنظيم سياسي له أطره, وتمثلاته في الواقع السياسي, ويتحرك ضمن مصالح سياسية واقتصادية, يخرجها (أي المذهبية) من دائرة الحق القانوني المتمثل في حرية المعتقد وحرية التفكير والحق في ممارسة الشعائر والعبادات, إلى دائرة السلوك العصبوي (الطائفي) المغلق, الذي ينجم عنه استهداف الآخر عبر تهميشه, وإقصائه, واستبعاده, وشيطنته, وصولاً إلى تصفية وجوده الكياني عبر شن حرب شعواء عليه.

الطائفية والتميُز الكياني

لا تتحقق الطائفية إلا بالدولة, تلك إحدى النتائج المهمة التي توصل إليها الماركسي مهدي عامل من خلال حفرياته وتناولاته للظاهرة الطائفية في لبنان. ومعنى ذلك أن الطائفية, تهدف فيما تهدف إليه, إلى إنتاج نظام سياسي تحاصصي يضمن لها حصة (كوتا) في السلطة ومركز القرار. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد, بل تسعى إلى توسيع قاعدة التحاصص لتشمل أجهزة الدولة التي يفترض أن تكون حيادية في مهامها ووظائفها وتعكس مضمون وطني في تمثيلها, كالجهاز القضائي, والتعليم, والجيش والأمن, والأوقاف, والجهاز التشريعي, الذي يوكل له مهمة إنتاج نصوص دستورية وقوانين وتشريعات تعكس جوهر تلك الصيغة التحاصصية.

لقد تضمن اتفاق (السلم والشراكة) شيء من ذلك, فقد أعطى جماعة الحوثي حصة في مؤسسات: الحكومة والجيش والأمن والقضاء! وهذا ليس نهاية الطريق, بل مبتدأه!, فعلى الأرجح ستسعى الجماعة إلى مد نفوذها في التعليم والإعلام والأوقاف والأجهزة الرقابية.

يريد الحوثي نظاماً سياسياً يعكس مصالح جماعته, ويثتب وجوده كمركز مهيمن, ولن يعدم الوسيلة في استمالة المجتمع والقوى السياسية لتمرير ما يريد, فهو سيظل يتودد الجنوب وربما مناطق الوسط التي عانت ولا تزال من تهميش وإزاحة سياسية, بمنحها بعض المواقع الحكومية, بغرض إضفاء صفة الوطنية على نظام يتحكم به من وراء الستار ويطبق على أنفاسه!

في الخصوصية اليمنية:

الطائفية ليست كياناً ثابتاً, أو معطىً ناجزاً, بل ظاهرة خاضعة لشروط التغير والتطور والتحول, ومحكومة بخصوصية كل بلد.

تأسيساً على هذا الفهم, يمكن مقاربة الخصوصية اليمنية من المنظور الذي يطرحه الماركسي فالح عبدالجبار, الذي يؤكد على أن الطائفية لا تتحقق من تسييس المذهبية فقط, بل من تسييس وأدلجة كل هوية جزئية ما قبل وطنية (دينية, مذهبية, قبلية, جهوية, مناطقية, إثنية,...إلخ).

إن الطائفية كـ"حالة", وكـ"وضع" تجد أساساً لها في كل فعل اقتحامي للمجال السياسي بأدوات غير سياسية, فاقتحام القبيلة للميدان السياسي من موقعها كقبيلة يصبغ عليها وبلا أدنى شك أصباغ الطائفية, شأنها في ذلك شأن المنطقة أو الجهة أو الدين أو المذهب. ومجيء الشيخ القبلي, أو رجل الدين, أو المناطقي, إلى السياسة بوعيه العصبوي, ومن موقعه الاجتماعي؛ ليمثل فيها جماعته أو مذهبه أو منطقته هو بالضرورة رجل طائفي!

إن السياسة فعل اجتماعي وآلية لإدارة مصالح الشعب وفقاً لاحتياجاته وتطلعاته, لا تتحقق إلا بأدواتها الخاصة (الأحزاب, النقابات, ومختلف التشكيلات المدنية), وتفرض على كل من يمارسها أن يمتلك رؤية أو برنامج سياسي لحل قضايا المجتمع والدولة, كما تفرض عليه طبيعة تموضعه في خارطة التمثيل السياسي, فهو يأتي ممثلاً عن حزب سياسي أو أي شكل مدني الذي يكون بالضرورة وطني, لا أن يأتي ممثلاً عن مذهب معين أو قبيلة ما أو منطقة بعينها. هذا هو الوضع السليم, بيد أن الواقع اليمني يشهد وجود قوى ومراكز نفوذ (قديمة ومستجدة) تتحكم في القرار السياسي, كجماعة الحوثي والسلطة المشيخية الممثلة بآل الأحمر وغيرها من المشيخيات, تقلص مساحة عمل الأحزاب السياسية لصالح تعزيز حضور الدين والمذهب والقبيلة والمنطقة, وهو ما يجعل من الطائفية خطراً جدياً وخياراً محتملاً.

 الطائفية.. حالة متأصلة أم طارئة؟

الطائفية ليست ظاهرة أزلية, رغم انطوائها على البعد التاريخي, فتجد أساساً لها في الانقسامات المذهبية والفقهية والسياسية التي شهدها التاريخ الإسلامي منذ سقيفة بني ساعدة والفتنة الكبرى, مروراً بأحداث معركتي الجمل وصفين, وانتقال الحكم من صيغة أهل الحل والعقد إلى المُلك العضوض بقيام الدولة الأموية, وصولاً إلى تحلل الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى إلى دويلات صغيرة وكيانات قبلية وعشائرية, لكن ذلك ليس العامل الوحيد.

فالطائفية لا تتخلق بأثر رجعي, وهي ليست جوهراً كامناً في التاريخ أو في مكان ما أو بلد معين يمكن استدعاءه في زمانٍ ومكانٍ معيَّين. كما أنها لا تتشكل من تلقاء ذاتها, أو بقرار من طرف أو أطراف معينة (داخلية أو خارجية), بل هي صيرورة, وظاهرة متغيرة وعابرة فوق البلدان والمجتمعات.

البلد الطائفي لا يولد طائفياً بالصدفة, بل هناك أسباب وعوامل موجودة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة, يمكن لها أن تتضافر وتنجح في إنتاج الطائفية, كما يمكن أن تخفق, لكن يظل شبح الطائفية قائماً, ما لم تُعالج الأسباب والعوامل المؤدية إليه, والتي منها:

1.         فشل النظام السياسي العربي في إدارة التنوع الثقافي والديني والسياسي, وانتقاله من الموقع الوطني بُعيد الاستقلال الوطني إلى الموقع التسلطي الاسئثاري, وقيامه بتنميط المجتمع وفرض قوانين أحادية وأعراف استبدادية, ألغت السياسة, وأقصت الأحزاب, وخلقت هوة أخذت في الاتساع يوماً عن يوم بين مطامح النخبة الحاكمة ومصالح عموم الشعب.

2.         إخفاق النموذج التنموي الذي اعتمدته الدولة التسلطية في المشرق العربي, بسبب لجوئها إلى استنساخ تجارب تنموية نجحت في بلدان أخرى, وتطبيقها بشكل آلي دون مراعاة الخصوصية المحلية وظروفها المعقدة, ترتب على ذلك نتائج عكسية. فالإصلاحات الاقتصادية المشوهة التي طُبقت بهدف تجاوز معضلة التخلف,  ألحقت أضراراً فادحة بفئات واسعة من المجتمع, وطردت قسم كبير من المنتجين الزراعيين والبروجوازيين الوطنيين خارج العملية التنموية, وبالتالي أعادت تكريس التخلف بصورة معكوسة!

3.         أعقب ذلك الإخفاق ردة فعل في الاتجاه المضاد, تمثل في اللحاق المنفلت بالسوق العالمية مع مطلع الثمانينات, ولجوء الأنظمة إلى سياسات جديدة, كـ"الانفتاح الاقتصادي" و"التكيف الهيكلي" والخصخصة, وصولاً إلى الاستنجاد بروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين, التي قضت على بينة الاقتصاد الوطني وعمّقت حالة التفاوت الاقتصادي في المجتمع.

4.         أنتجت تلك الانعطافة نتائج مريرة, منها:

-           نشوء طبقة طفيلية تشكلت غالبيتها من المشائخ والقادة العسكريين وكبار الموظفين, عملت على مراكمة ثرواتها من خلال النهب والفساد الجائر, واقتحام النشاط التجاري والاقتصادي في قطاعات: التوكيلات والبنوك والخدمات والعقارات والاستثمارات وغيرها.

-           تدمير القطاع العام والتخلي عن الصناعة والإنتاج, والاتجاه نحو الريع باستخراج الثروة الباطنة (النفط والغاز), واعتماد الجباية والضرائب مصدراً رئيساً من مصادر الخزينة العامة للدولة. ما خلق اقتصاداً تابعاً يعتاش على المساعدات الخارجية المقدمة من الدول الغربية, التي ما تنفك أن تستعيد باليد اليمنى أضعاف ما أعطته باليد اليسرى!, وهو اقتصاد هش يتسم بمحدودية مصادره ويعيق التحول الديمقراطي في المجتمع, ويعمل على تكريس  السلطة التقليدية بتلاوينها الدينية والمذهبية والقبائلية والعسكرتارية والجهوية.

-           بروز شكل جديد من الاقتصاد, إنه "اقتصاد الحرب", حيث تظل عجلة الحرب تدور وما إن تتوقف تعاود دورانها, في واقع جعل من السلطة مصدراً للثروة, أنتج ذهنية الغنيمة التي تنظر إلى الدولة بصفتها أرض وثروة جاهزة للفيد والنهب.

-           إن كل اقتصاد تابع, ينتج طبيعة تراكمية لاتكافؤية خاصة به, في اليمن نشأت فجوة أخذت في التعمق بين المركز والأطراف, حيث استأثر المركز بالمشاريع التنموية, في حين استبعدت مناطق الأطراف (التخوم), ما ولّد في نفوس أبناء تلك المناطق مشاعر الغبن والضيم, جعلهم يتصرفون في أوقات كثيرة بنزعة عدوانية ثأرية.

5.         يظل خلط الدين بالسياسة, أبرز مزود لطاحونة الصراعات والانقسامات التي تفتك بالمجتمع, لأن المجال الممارسي لتسييس الدين يخرجه (أي الدين) من إطاره الجواني بما هو عامل أخلاقي وتهذيبي للروح الإنسانية وحثها على فعل الخيرات وترك المنكرات, إلى الإطار البراني المليء بالمتناقضات والمصالح وهو ما يفقد الدين جوهره ويبهت مكانته.

الأنظمة السياسية العربية التي سعت إلى إضفاء مشروعية دينية على ممارساتها, أنتجت فرزاً دينياً في المجتمع, سببه تبني الحاكم لمذهب معين وتقريبه لجماعة دينية بعينها, ما أدى إلى تهميش الجماعات الدينية والمذاهب الأخرى والتضييق عليها ومصادرة حقها في ممارسة الشعائر الخاصة, وولد  احتقان تفجر على شكل صراع مذهبي اتخذ مع الوقت وبفضل صلف السلطة بعداً سياسياً ليرتقي إلى مصاف الصراع الطائفي.

 

يتبع...

قراءة 2076 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة