فوائد الأسفار

الأحد, 16 تشرين2/نوفمبر 2014 20:22
قيم الموضوع
(0 أصوات)

عندما نصحنا الإمام الشافعي، رحمه الله، بالسفر، ولخص فوائده بقوله:

تغرَّب عن الأوطان في طلب العلى      وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

فتفريج هم واكتساب معيشة                  وعلم وآداب وصحبة ماجد

عندما نصحنا بذلك، لم يكن، لا هو و لاعصره، يعرفان الفائدة السادسة، التي أضحت، في عصرنا هذا، الفائدة الأولى، بالنسبة لنا نحن اليمنيين، وهي فائدة العلاج في مشافي البلاد العربية، لاسيما مشافي الأردن ومصر. وقد كان لي حظ جني هذه الفائدة الجديدة. فرغم إصرار الطبيب، الذي لجأت إليه ليلاً لإسعاف أحد أفراد أسرتي، رغم إصراره على مواصلة الفحوص وعدم السفر قبل شهر، لأن حياة المريض يمكن أن تتعرض للخطر، وتأكيده بأنه لن يتحمل أية مسؤولية، مادام قد حذرنا من العواقب، وكأن مستشفياتنا تتحمل المسؤولية، إذا ماساءت حالة المريض أو حتى تعرض للوفاة، نتيجة أخطاء طبية، رغم ذلك فقد قررت عدم الإكتراث بتحذيراته، وقبلت المغامرة، بعد الإستئناس برأي طبيب صديق، أثق به.

ركبت الطائر الميمون، طائرتنا اليمنية، المتجهة إلى الأردن، التي تشعرك، وأنت في داخلها، بأنها جزء أصيل من اليمن الحالي. كان موعد الإقلاع في التذكرة غير متطابق مع الموعد المسجل في كمبيوتر المطار، وفقاً لتأكيد الموظف المسؤول في المطار. الفارق ساعة واحدة فقط. قلت في نفسي ساعة من الزمن لاتعني شيئاً، لقد ضاع عمر بكامله هباءً، ولن تحدث ساعة إضافية، في مطار صنعاء (الدولي)، ضرراً إضافياً.

وأقلعت الطائرة بتأخير بسيط، عن موعدها المسجل في كمبيوتر المطار، قدره نصف ساعة فقط، وبتأخير أطول عن موعدها المسجل في تذكرة السفر، قدره ساعة ونصف فقط. وأقلع معنا ضيوف ثقلاء، عملوا بنصيحة الإمام الشافعي، دون أن يسمعوا عنها. أسراب من الذباب المتطفل، الراغب في الهجرة خارج الوطن، الذي لم يكتف بالركوب مجاناً، بل وجد متعته في مضايقة الركاب الآخرين. وقد حاولت أن أغفو قليلاً في الطائرة. ولكن دون جدوى. فرغم أن ليلة السفر كانت ليلة متعبة، لم ننم فيها سوى لحظات متقطعة، وظلت أعصابنا مشدودة ومتيقظة، خوفاً من أن يفوتنا موعد الطائرة، وغادرنا المنزل في الساعة السادسة صباحاً، باعتبار أن الموعد في التذكرة هو التاسعة، رغم ذلك كله لم يدع لي الضيوف المتطفلون أية فرصة لا للنوم ولا لمجرد الراحة. وبقيت طوال الرحلة أحرك يدي، يمنة ويسرة، في محاولات يائسة لطرد الذباب عن وجهي.

وجاء موعد ماتسمى بوجبة الطعام. وهي وجبة لا علاقة لها بالوجبات، التي تقدمها شركات الطيران لضيوفها. وقد رؤي أن تغطي تلك الوجبة وجبتي الإفطار والغداء معاً، على سبيل ترشيد الإنفاق، كما يبدو. كانت الوجبة مكونة من شيئ، قيل لنا أنه فول ومعه بعض اللحم المفروم المسلوق، دون طبخ ودون أية تحسينات مدخلة عليه. فلازيت ولابصل ولاطماط ولابهارات ولاشيئ مما هو متعارف عليه في طباخة اللحم. ولعل ذلك من قبيل الحرص على صحتنا، باعتبار أن معظم ركاب الطائرة من المرضى، المتجهين للبحث عن الفائدة السادسة من فوائد الأسفار. وبجانب الطبق البلاستيكي الصغير، الذي يحتوي مايسمى فول ودقة، وُضع قرص عيش صغير مدور، مضى على صنعه وقت، كان كافياً لتحويله إلى شيئ صلب، يتفتت بمجرد أن يحاول الراكب الجائع كسره، ثم قطعة من الكيك بحجم قرص العيش وشكله، ولم يكن حالها بأفضل من حاله. ومع هذه الوجبة الشهية تم تقديم علبة عصائر، من الحجم المخصص للأطفال، وكاسة ماء وكوب من الشاي.

تذكرت وأنا أفتح علبة الطعام وأقلب محتوياتها، تذكرت الأستاذ محمد الحيمي رحمه الله، وتجسدت أمامي حقيقة أننا فشلنا حتى الآن في إيجاد العمل المؤسسي، ومايزال أداء أية مؤسسة من مؤسساتنا مرتبطاً بشخص المسؤول الأول فيها ومرهوناً بقدراته الذاتية. فإذا كان كفؤاً وجاداً ومخلصاً، تحسنت أوضاع المؤسسة. وإذا كان غير ذلك، تدهورت أحوالها. ففي عهد المرحوم الحيمي تحسنت أحوال الطائرة اليمنية وأصبحت قادرة على المنافسة في السوق العالمية. سواءً من حيث ضبط المواعيد أو من حيث الخدمة أو من حيث وجبات الطعام، أو من حيث خلوها من الذباب المهاجر، حيث كانت علبة من مبيد الحشرات كافية لوقاية المسافرين من هذه الظاهرة المؤذية.

وعلى ذكر مبيد الحشرات، حاولت أن أستفسر عن السبب في عدم رش الطائرة قبل صعود المسافرين. فسألت المضيفة: لماذا لم ترشوا الطائرة بعلبة من مبيد الحشرات، لتؤمنوا للمسافرين راحتهم من هذا الذباب النشط، الذي لم يهدأ ولم يتوقف عن التحرش بالمسافرين، منذ تحركت الطائرة من مطار صنعاء؟ وبنبرة لاتخلو من التأنيب، أضفت قائلاً: إذا كانت الشركة لاتستطيع شراءها، كان يمكن أن تشتروها على حساب المسافرين. إلتفتت المضيفة إلي، وأجابت بلغة عربية ركيكة، بما معناه: لورششنا الطائرة فسوف يموت المسافرون. أدركت أنها لم تفهم ماقصدته، وتصورَت أنني أطلب منها رش الطائرة في تلك اللحظة، فتوقفت عن هذا الحوار، الذي لاجدوى منه. وبعد فترة مر بالقرب من مقعدي مضيف يمني، فأمسكت بذراعه وأشرت إلى الذباب المتنقل على وجوه المسافرين، قائلاً: ماهذا، ألا تستطيعون التخلص منه؟ فرد ببرود ولكن بظرف، ينم عن عدم رضاه عن هذه الحالة: تقصد الذباب؟ هذا عادي، موجود كل يوم !!!.

وأمام هذا الجواب المقنع، لذت بالصمت طوال الرحلة، التي بدأت بخروجي من منزلي في السادسة صباحاً وانتهت بدخولي إلى الشقة المستأجرة بعمَّان، في حوالي الخامسة مساءً بتوقيت الأردن، السادسة بتوقيت صنعاء، بعد أن أمضينا أربع ساعات ونصف، بين مغادرة المنزل وبين إقلاع الطائرة من مطار صنعاء، وخمس ساعات ونصف تقريباً في الطائرة، تجاوزنا خلالها عمَّان جواً وهبطنا في بيروت، ثم عدنا أدراجنا للهبوط في عمَّان. ويمكن للمرء أن يتخيل معاناة المرضى، داخل المطار، ثم داخل الطائرة، طوال هذه المدة.

في صباح اليوم التالي توجهت إلى المستشفى. وهناك وجدت ماهو أكثر إزعاجاً وإيذاءً من الذباب اليمني المرافق لنا في رحلة الأمس. وجدت المستشفى مكتضاً بالمرضى اليمنيين. كانت هذه هي الظاهرة الأولى، التي لفتت نظري. أما الظاهرة الثانية، فقد عرفتها من خلال حواري مع بعض المرضى. فكثير من المرضى يكتشفون في مستشفيات الأردن أنهم أمضوا في اليمن أشهراً وربما سنوات يعالَجون علاجاً خاطئاً، بناءً على تشخيصات خاطئة. والغريب أن معظم مستشفيات اليمن، إن لم تكن جميعها، تحمل أسماءً جميلة، ينتهي كل إسم منها بكلمة (التخصصي) دون تحديد مجال التخصص. وهي موضة سائدة حتى في الفنادق، التي ينتهي إسم معظمها بكلمة (السياحي)، وكلاهما لاهو تخصصي ولا هو سياحي. ولايعرف المرء المعايير التي وضعتها وزارتا الصحة والسياحة، لمنح التراخيص (التخصصية) و (السياحية)، لهذه المستشفيات والفنادق. إلا إذا كان الأمر من قبيل تسمية الأشياء بنقائضها.

الأمر ليس ظريفاً كما يُحكى، بل هو شديد الإيلام. ولايشعر المرء بهذا القدر من الألم، الذي شعرت به، تجاه نقائصنا إلا وهو في الخارج. إذ أن أي نقد نسمعه في حق طيراننا اليمني أو مؤسساتنا وخدماتنا العامة، أو أي شيء يمت إلى اليمن بصلة، سرعان مايثير في أعماقنا إحساساً بأن كرامتنا الوطنية قد جرحت. والعجيب في الأمر أننا نصبح مستنفرين للتبرير والدفاع عن أخطاء، هي موضع نقدنا نحن في الداخل وسخطنا وعدم رضانا عنها وعن المتسببين فيها. موقف لايمكن فهمه. وكأن المرء لايستطيع أن يكون حيادياً وموضوعياً، عندما يتعلق الأمر بما يظنه الكرامة الوطنية. مع أن مثل هذه الأخطاء لاعلاقة لها بالكرامة ولا بالوطنية.

ومع ذلك فإن النقد، سواءً أتى منا أو أتى من سوانا، إنما يؤكد عجزنا عن بناء بلدنا وتوفير الخدمات الضرورية لمواطنينا. وعلى رأسها الخدمات الطبية، رغم امتلاء اليمن بأطباء، ليسوا أقل كفاءة من نظرائهم في الخارج، ولكن عطاءهم غير منظور. فأين يكمن الخلل؟ سؤال سيعيدنا إلى دائرة السياسة. فمالم توجد الدولة القوية المتماسكة النظيفة، المؤهلة لتحقيق مشروع وطني نهضوي واضح المعالم، والقادرة على الدفع بعجلة التنمية إلى الأمام، تنمية الإنسان وتنمية الموارد والمؤسسات والخدمات العامة، فسوف تبقى طاقات وقدرات اليمنيين مهدورة، ولن تفيدنا حتى قدرات أطباء لاينقصهم الذكاء ولا العلم، وكان بعضهم من أوائل الطلبة المبرزين في دراساتهم، ولكنهم أتوا إلى بيئة عمل، أقل مايقال عنها، إنها بيئة محبطة ومدمرة.

أما طيراننا، الذي يحرص على إبقاء أسعار تذاكره في أعلى المستويات. ربما من قبيل التشبه بشركات الطيران العالمية. فإن من الأجدر به أن يحاول التشبه بالشركات العالمية لافي مستوى الأسعار، بل في مستوى الخدمات وضبط الوقت ومكافحة الذباب وتقديم وجبات طعام حقيقية لضيوفه. وهي أمور سهلة وبسيطة، بالنسبة لمؤسسة تحقق إيرادات يومية، ليست قليلة. والدليل على سهولتها، أن رحلة العودة من عمَّان، رغم تأخرها ساعة واحدة عن موعدها، قد تميزت بطعام أفضل، بما لايقاس، كما لم أشاهد سوى ذبابة أوذبابتين، كانتا تأتيان وتغيبان طويلاً، ثم تعودان، بهمة أضعف وهدوء أكثر مما شاهدناه في رحلتنا من صنعاء. وهذا يعني أننا نستطيع أن نحسن أداء طيراننا وسمعته، إذا أردنا ذلك.

ورغم مايشعر به الإنسان من ألم وهو يشاهد جموع المرضى اليمنيين في المستشفيات وفي الشوارع، أو يشارك الذباب في طائرته اليمنية ويتناول طعاماً لايشبه الطعام، الذي تقدمه شركات الطيران المحترمة لضيوفها، أو يعاني من طول الرحلة، بسبب عدم الإلتزام بالوقت المحدد للإقلاع والوقت المحدد للوصول، فإن اليمني يستطيع اليوم أن يتباهى باكتشافه الفائدة السادسة للأسفار (فائدة العلاج في مشافي البلاد العربية)، وهي فائدة نستطيع أن نضيفها بفخر إلى فوائد الإمام الشافعي الخمس، وإن كانت فائدة لاعلاقة لها بطلب العلى، الذي استهل به الشافعي قصيدته. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة 1839 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة