خواطر حول (نظرية) المؤامرة*

الجمعة, 01 كانون2/يناير 2016 19:04 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

قدمة:

    ينكر بعض المثقفين العرب المؤامرة، أو (نظرية المؤامرة) كما يسمونها، ويحرصون بمناسبة وبدون مناسبة، على تأكيد رفضهم لها، وإظهار سخريتهم ممن لايسايرهم في ما يذهبون إليه. وهنا أود أن أسجل بعض الخواطر السريعة، التي لا يمكن أن تغني عن دراسات متأنية لهذا الموضوع. 

وتمهيداً لعرض هذه الخواطر، دعوني أورد أولاً فقرتين من شهادة معاصرة، سجلهما جورج تينيت رئيس وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، في الفترة من 1997م وحتى 2004م، تشيران إلى قرينة من قرائن المؤامرة، التي حيكت على العراق، وتؤكد على أن قرار غزوه كان قد اتُّخذ قبل حادث 11 سبتمبر 2001م. وهو الحادث الذي وُظِّف توظيفاً كاملاً، لتوفير مادة فاعلة في التحريض على الغزو واستغفال الشعب الأمريكي وإقناعه بمشروعية تدمير العراق، دفاعاً عن النفس. باعتباره، كما زعمت الإدارة الأمريكية، يشكل تهديداً مباشراً لأمن الولايات المتحدة الأمريكية وللسلم العالمي، بما تحويه ترسانته العسكرية من أسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها الأسلحة النووية، وبما يمثله من حاضن للجماعات الإرهابية. يقول تينيت:

"مشيت تحت المظلة التي تؤدي إلى  الجناح الغربي (من البيت الأبيض) وشاهدت ريتشارد بيرل خارجاً من المبنى فيما أهمُّ بدخوله. وبيرل هو أحد عرَّابي حركة المحافظين الجدد، وكان ذات يوم رئيس مجلس السياسة الدفاعية، وهو مجموعة مستقلة تقدّم المشورة لوزير الدفاع. لم تكن العلاقة بيننا أكثر من معرفة عابرة. وعندما أُغلقت الأبواب خلفه، نظر كل منّا إلى الآخر وهزّ رأسه. وعندما وصلت إلى الباب، إلتفت بيرل إليّ وقال، "يجب أن يدفع العراق ثمن ما حدث أمس. إنّهم يتحملون المسؤولية". ذهلت لكنّني لم أقل شيئاً. فقبل ثماني عشرة ساعة، تفحّصت كشوف المسافرين على متن الطائرات المختطفة الأربع وأظهر ذلك بما لايدع مجالاً للشك أن القاعدة تقف وراء الهجمات. وفي الأشهر والسنين التالية، تفحّصنا بعناية احتمال وجود دور تعاوني لدول راعية. ولم تعثر الإستخبارات لافي ذلك الوقت ولا الآن على أي دليل على تواطؤ عراقي.

إلتفتُّ إلى بيرل عند حاجز جهاز الأمن السري وتساءلت: ترى عمّ يتحدث؟ وبعد لحظات، خطر ببالي سؤال ثانٍ: مع من كان ريتشارد بيرل مجتمعاً في البيت الأبيض في صباح هذا اليوم الباكر بالذات؟ ولم أتوصّل قط إلى جواب عن السؤال الثاني." (جورج تينيت: في قلب العاصفة، السنوات التي قضيتها في السي آي إيه. ترجمة عمر الأيوبي، ص 21 – 22. دار الكتاب العربي، بيروت، 2007م).

هذه قرينة من قرائن كثيرة، تشير إلى مؤامرة حبكت حبكاً محكماً ووفرت الذرائع اللازمة لتنفيذ قرار كان قد اتُخذ مسبقاً، قضى بغزو العراق وتدميره وإعادة السيطرة على نفطه وتجزئته إلى دويلات طائفية وعرقية، تدشن بها الولايات المتحدة الأمريكية التقسيم الجديد للوطن العربي، تحت ما يُسمى في الأدبيات السياسية الأمريكية (الشرق الأوسط الجديد).  

وقد تنادى المهتمون في العالم، يبحثون في خفايا هذه المؤامرة، ويحاولون كشف أسرارها. منطلقين في جهودهم من رفض صريح للرواية الرسمية، التي روجت لها الإدارة الأمريكية ووسائل إعلامها، مؤكدين وجود مؤامرة، ذات علاقة بمخطط غزو العراق وتدميره، تحت ذرائع ثبت كذبها كلها. وسواءً ذهبنا مع هؤلاء المهتمين في رفضهم، أو سلمنا بالرواية الرسمية الأمريكية، أفلا يصح في كلا الحالتين أن نسمي ماحدث في نيويورك وما سبقه من تخطيط وما لحقه من توظيف، أياً كانت الجهة التي قامت بذلك، أفلا يصح أن نسميه (مؤامرة)؟

 

نظرية المؤامرة:

حتى الآن لم أفهم مايقصده بعض المثقفين العرب بمصطلح (نظرية المؤامرة)، وتزداد صعوبة الفهم لديَّ عندما أحاول أن أطبق التعريف العلمي لهذا المصطلح على ما يردده هؤلاء. فالنظرية بحسب تعريفها الفلسفي، هي "تركيب عقلي، مؤلف من تصورات منسقة، تهدف إلى ربط النتائج بالمبادئ"[1]. وبتبسيطنا لهذا التعريف، يمكن أن نقول: لابد أن تسبق النظريةَ جهودٌ علمية منهجية منظمة تنطلق من مقدمات صحيحة (مبادئ) وتفضي إلى نتائج علمية. وتُبنى النظرية بعد ذلك على مجمل هذه الجهود. فتوظِّف النتائج العلمية، التي تم التوصل إليها، وتؤلف فيما بينها وتؤكد مبادئها وتدمج كل ذلك في صيغة (نظرية) متناسقة، خالية من أي تناقض. فهل هذا مايقصده بعض المثقفين العرب، عندما يتحدثون عن (نظرية المؤامرة)؟.

ولنكمل تعريف (نظرية المؤامرة) بالوقوف عند معنى كلمة (مؤامرة)، لعلنا نفهم مايقصدونه ونعرف ما يتحدثون عنه: أصل الكلمة هو (أَمَرَ) بمعنى طلب شخص من شخص آخر أو أشخاص فعل شيء. وهنا يكون الطالب (آمراً) والمطلوب منه القيام بالفعل (مأموراً). ودون أن نستطرد في استعراض كل اشتقاقات هذا الأصل ومعانيها المختلفة، نكتفي بالوقوف على معنى أحد الإشتقاقات، وهو (آمَرَه)، أي شاوره في أمر. وتآمروا: تشاوروا في أمر ما. وتآمروا على شخص، تشاورا في الخفاء لإلحاق الأذى به. ومن هنا فإن (المؤامرة) تعني التشاور في الخفاء لعمل شيء ما يلحق الضرر بشخص أو بجماعة أو بدول.

إذاً فالإعتقاد بوجود المؤامرة في حياة البشر، هو اعتقاد صحيح. فتشاور البعض لإلحاق أذى بآخرين، ظاهرة عرفها الناس في حياتهم عبر التاريخ البشري كله. وإلا ماكان معنى اللفظ قد ثُبِّت في كل معاجم اللغات الحية في العالم. فلماذا نخشى القول بأن مصالح الأفراد والدول تدفع إلى أن يتآمر بعضهم على بعضهم الآخر، للحفاظ على مصالحه، أو للإستئثار بمصالح الآخرين. هذا شيء مألوف وجزء من حياة البشر، في الماضي والحاضر. وسيكون هذا هو الحال في المستقبل أيضاً.

وبصرف النظر عن معنى مصطلح (نظرية)، الذي أُلصق بكلمة (مؤامرة) بصورة مصطنعة، فإن صفحات التاريخ قد امتلأت بالحديث عن المؤامرات. لاسيما عندما يتعلق الأمر بالسلطة، وبما يرتبط بها من إغراءات الهيمنة والثروة والجاه والشهرة. فلم تُنتزع السلطة عبر التاريخ من أسرة أو من فئة أو من عشيرة، إلا عبر مؤامرة متقنة، ينتج عنها في الغالب سفكٌ للدماء وإزهاق للأرواح وتدمير ونهب للمتلكات العامة والخاصة. بل إن انتقال السلطة في أحايين كثيرة من شخص إلى شخص، داخل الأسرة نفسها، قد تم عبر مؤامرة، شارك فيها بعض أفراد من الأسرة مع أفراد أو جماعات داعمة، من خارج الأسرة.

 

المؤامرة، بين المنكرين لوجودها والمعتمدين عليها وحدها في تفسير الأحداث:

تتوالى المؤامرات على أمتنا العربية في تاريخها المعاصر. بدءاً بالإحتلال الغربي لبعض الأقطار العربية، ومروراً بتسخير ماعُرف بالثورة العربية الكبرى، لتحقيق أهداف الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم بريطانيا، وباتفاقية سايكس ـ بيكو، وبتهويد فلسطين. وانتهاءً بالفوضى الخلاقة، التي نعيش فصولها، وبالشرق الأوسط الجديد، الذي نُساق إليه. وعندما تعمى الأبصار عن رؤية هذا كله، فإننا لابد أن نتساءل: هل هو عمى فعلاً، ناتج عن جهل أو عن ثقافة مشوهة، أم أنه موقف واعٍ يهدف إلى تبييض صفحة الإستعمار الغربي وتمويه نواياه وتمرير مخططاته؟.

ولأن المؤامرة كانت دائماً موجودة وستظل موجودة باستمرار، فإن الجدل لايجب أن يبقى في حدود وجودها أو عدم وجودها، بل لابد أن ينتقل إلى مستوى آخر، وهو: هل يصح تفسير الأحداث بالمؤامرة وحدها، أم أن هناك عوامل أخرى، إقتصادية واجتماعية وسياسية، أكثر أهمية من المؤامرة؟ بالتأكيد هناك عوامل أخرى لانستطيع أن نفسر أي حدث أو نفهم ملابساته، دون الوقوف عليها؟ بل إن المؤامرة نفسها لايمكن فهمها دون أن نقف على جملة العوامل التي أنتجتها. 

المسألة إذاً مسألة منهجية. كيف نفسر الأحداث؟ هل نكتفي باختزال العوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الفاعلة في صناعة الأحداث، هل نكتفي باختزالها في عامل واحد، وهو المؤامرة، ونعفي أنفسنا بعد ذلك من أي جهد فكري جاد يوصلنا إلى التفسير الصحيح، أم ننكر وجود المؤامرة ونرفض أي حديث عنها وعن تأثيرها في أوضاعنا الراهنة؟ وهل سيسمح لنا كلا الفريقين، من يرفضون رفضاً قاطعاً الحديث عن المؤامرة، ومن لا يرون أداة لتفسير كل الأحداث سوى المؤامرة، هل سيسمح لنا هؤلاء وأولئك بأن نقف في موضع وسط بينهما، دون أن نثير حفيظتيهما؟

سنحاول في مايلي أن نبين خطأ الطرفين وقصور منهجيهما، من خلال مثالين من تاريخنا الوسيط (الإسلامي)، وبضعة أمثلة من تاريخنا المعاصر، الممتد إلى الواقع الراهن في الوطن العربي.

 

مثالان من تاريخنا الوسيط (الإسلامي):

مؤامرة عبد الله بن سبأ:

بعد توسع الفتوحات الإسلامية إلى العراق وفارس وبلاد الشام ومصر وُلد واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي جديد. كانت هذه البلدان تختلف بخصوبتها وأوضاعها الإقتصادية ومستواها الحضاري عن صحارى الحجاز ونجد. وقد آذن ذلك الفتح بتحول كبير في حجم الدولة ووظائفها، من دولة المدينة المحدودة المساحة والوظائف، إلى دولة مترامية الأطراف، متعددة الوظائف. كما آذن بتحول كبير في حياة المسلمين (ونقصد هنا العرب المسلمين على وجه التحديد)، من الفقر إلى الغنى ومن التقشف وضيق العيش إلى الرفاهية والبذخ. وكان لابد لهذا الواقع الجديد من أن يُحدث تغييراً في إدارة الدولة. إذ لم يعد نهج أبي بكر وعمر، وكذلك عثمان "إلى أن غير وبدل"، على حد تعبير الخوارج، لم يعد نهج هؤلاء يتناسب مع طابع الحياة الجديدة. وقد تنبه عمر ابن الخطاب إلى هذا الأمر، فلجأ إلى إجراءات إستثنائية، تحسباً لما هو قادم. ومنها احتجاز الأثرياء من وجهاء الصحابة عنده في المدينة، عاصمة الدولة حينذاك، ومنعهم من الإنتقال إلى البلدان المفتوحة. وفَسَّر موقفه هذا بالخشية من أن يفتتن الناس بهم، لما يملكونه من ثروة وما يتمتعون به من وجاهة، وما يصاحب ذلك من نفوذ، قد يحوِّلهم إلى مراكز قوى، تتنازع السلطة فيما بينها وتهدد وحدة المسلمين.

ولما تولى عثمان الخلافة نهج نهجاً جديداً في إدارة الدولة، مغايراً لنهج أبي بكر وعمر، بدءاً بالسماح للأثرياء، الذين احتجزهم عمر في المدينة، بأن ينتقلوا بحرية إلى حيث يشاؤون. لقد فرض الواقع الجديد نمط حياة جديدة ونهجاً إدارياً جديداً. ولم يكن عثمان، بشخصيته المتسامحة، قادراً على مقاومة الواقع الجديد. وكان ضعفه أمام ضغوط أبناء عشيرته وأقربائه وتساهله تجاه أخطاء الولاة ومخالفاتهم، بعد ما عرفوه من حزم عمر وشدته في محاسبتهم، عوامل إضافية، ولَّدت سخطاً وتذمراً في أوساط المسلمين، إنتهى بالثورة على عثمان وقتله. ليشعل قتله فتيل الإقتتال وتنازع السلطة، الذي استمر على امتداد التاريخ الإسلامي، وحتى اليوم.

وحاول علي بن أبي طالب، الذي تولى الخلافة بعد مقتل عثمان، حاول أن ينهج نهجاً مغايراً لنهج عثمان وأقرب إلى النهج الذي سار عليه كل من أبي بكر وعمر. ولكن ذلك لم يكن بالأمر السهل، فالحياة كانت قد تغيرت تغيراً كبيراً. وقاوم نهجه ولاة أقوياء، على رأسهم والي الشام، معاوية بن أبي سفيان، الذي رفض قرار عزله من ولاية الشام، رغم صدور القرار عن السلطة العليا في الدولة، ممثلة بعلي بن أبي طالب. واتخذ من مقتل عثمان ذريعة للتمرد على الخليفة الجديد. ودارت رحى الحرب الدامية، التي استفاضت كتب التاريخ الإسلامي في الحديث عن تفاصيلها. وهي حرب مثلت صراعاً بين نهجين مختلفين في إدارة الدولة: نهج مبدئي، حاول أن يطوع الإدارة للمعايير المبدئية، دون مراعاة لمجمل المتغيرات الإقتصادية والسياسية، ونهج عملي، عبَّر بدهاء عن طبيعة الحياة الجديدة وتلاءم مع مجمل المتغيرات، في المجتمع الإسلامي الجديد. 

وفي وقت لاحق لذلك الصراع، الذي حُسم لصالح النهج الجديد. حارت عقول المسلمين في تفسيره. ولم يجرؤ أحد على الإقتراب من جوهره ومن عوامله وأسبابه الحقيقية، أو لم يكن مؤهلاً علمياً للنظر فيه وفق منهج تاريخي سليم. وبدلاً عن ذلك لجأ بعض المؤرخين إلى السبيل السهل في تفسير الأحداث. وهداهم تفكيرهم، بل وربما استبشاعهم لمجرد التفكير في أن تكون العوامل السياسية والإقتصادية، هي التي حركت تلك الصراعات الدامية، هداهم تفكيرهم إلى ابتداع شخصية عبد الله بن سبأ، بقدراته الخارقة وبدوره غير المألوف في صناعة الأحداث. وعمدوا إلى شخصيته الغامضة ليفسروا بها الأحداث، ويلقوا على عاتقها جريرة كل الصراعات والفتن والحروب، التي تفجرت في المجتمع الإسلامي. وما لبث هذا التفسير أن انتشر في بطون الكتب وعلى ألسنة وأقلام الرواة.

لقد اختلف المؤرخون حول شخصية عبد الله بن سبأ، مولده ونشأته وإسلامه وزمن ظهوره ونظرته إلى علي بن أبي طالب  ووفاته. فحول مولده، قيل في صنعاء وقيل بل في الحيرة. وحول إسلامه والزمن الذي ظهر فيه، قيل في عهد عثمان، وقيل بل في عهد علي. وحول نظرته إلى علي بن أبي طالب، قيل أنه اعتقد بأن علياً نبي، وقيل بل اعتقد بأنه وصي النبي وخليفته. وحول موته، قيل أن علياً قربه إليه، ولكن عندما بلغه ماينشره من أفكار تتسم بالغلو والخروج عن الإسلام أمر بحرقه في النار، وقيل بل اكتفى بنفيه إلى المدائن، بناءً على نصيحة عبد الله بن عباس. وجاء فيما بعد باحثون وعلماء ليشككوا حتى في حقيقة وجود هذه الشخصية[2]

شخص غامض، يهودي الديانة، إعتنق الإسلام بنية الكيد للمسلمين وتمزيقهم، واستطاع، بذكائه ومكره وحقده على الإسلام، أن يتلاعب بعقول القادة وأولي الحكمة والرأي، على امتداد البلاد الإسلامية، فيحرضهم على الفتنة ويدفعهم إلى قتل الخليفة عثمان. ليفتح بذلك باب الصراع والإقتتال بين المسلمين، الذي لم يُغلق بموته وتوقف مكائده، بل استمر مفتوحاً على امتداد التاريخ الإسلامي وحتى اليوم. وفي سياق هذا الصراع نشأت الفرق السياسية الإسلامية، التي كانت السلطة وما تزال هي مدار خلافاتها وصراعاتها.

هذا مثال واضح لتفسير الأحداث التاريخية بالمؤامرة وحدها، والعجز عن تبين الأسباب الإقتصادية والإجتماعية والدوافع السياسية، التي حركت تلك الأحداث. وفي هذا المثال يتجلى ميل العقل البشري إلى إيجاد تفسير ما لأحداث التاريخ، لكي تصبح أحداثاً مفهومة الدوافع والأسباب. وعندما يعجز عن تفسيرها بأسبابها الموضوعية، يلجأ إلى تفسيرها بالمؤامرة، التي قد تأخذ أحياناً شكل الأسطورة[3].

نكبة البرامكة:

نجح العباسيون عام 132هـ في قتل مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، وتقويض الدولة الأموية. وكان الفرس من أهم القوى التي ناصرت العباسيين وساهمت في إيصالهم إلى سدة الحكم. وكان لهم دوافعهم الخاصة. فقد تميز الحكم الأموي بعصبيته العربية وتهميش الطبقات العليا من الأقوام غير العربية، وعدم إتاحة الفرصة أمامها للمشاركة في السلطة. وعلى رأس هذه الأقوام القومية الفارسية، التي كانت تمثل قبل الإسلام إمبراطورية قوية وحضارة مؤثرة في العالم القديم والوسيط.

لقد ولَّد استئثار الأمويين بالسلطة وعصبيتهم العربية، ولَّد في نفوس الطبقة العليا الفارسية إحساساً بالظلم وسخطاً مكبوتاً على الدولة الأموية. وهنا التقت هموم وطموحات هذه الطبقة الفارسية مع هموم وطموحات الجماعات والفئات العربية المضطهدة، وعلى رأسها الشيعة العلوية والعباسيين. وبغض النظر عن الظروف والملابسات، التي جعلت العباسيين يصلون إلى مقدمة صفوف المعارضين ويحلون محل العلويين، فقد ناصر الفرس العباسيين، بعد أن أصبحوا يتزعمون النشاط المعادي للأمويين، وعملوا معهم يداً بيد لتقويض أركان الدولة الأموية. وكان في مقدمة هؤلاء أبو مسلم الخرساني، الذي لعب دوراً بارزاً في وصول العباسيين إلى السلطة. وانتهي مصيره إلى القتل على يد الخليفة أبي جعفر المنصور، الذي خشي من قوة وسطوة أبي مسلم على الدولة العباسية الوليدة.

وكان البرامكة يمثلون مكوناً من مكونات الطبقة الأرستقراطية الفارسية. حظوا بمنزلة خاصة لدى الخلفاء العباسيين الأوائل. وكما يُقال، فقد أرضعت زوجة يحيى بن خالد البرمكي هارون الرشيد بن محمد المهدي. وتولى يحي تربيته. وعندما تولى هارون الرشيد الخلافة أصبح جعفر بن يحي رفيقه ووزيره وموضع ثقته. وتولى الفضل بن يحيى بن خالد، أخو الرشيد في الرضاعة، تربية محمد الأمين، إبن الرشيد. هذا الوضع المتميز لآل برمك جعل تأثيرهم واضحاً في تسيير شؤون الدولة، فاتسع نفوذهم وعظمت ثروتهم وكثر أعوانهم وأنصارهم. وخشي الرشيد من نفوذهم المتزايد وخاف من أن ينازعوه الأمر، فقرر التخلص منهم والقضاء عليهم قبل أن يستفحل خطرهم عليه. وتمكن منهم، فقتل من قتل وصادر أموالهم وممتلكاتهم واستأصل نفوذهم السياسي وقوتهم الإقتصادية. وقد عُرف هذا الحادث في التاريخ ب (نكبة البرامكة).

وكان لابد لتلك النكبة من تفسير. ولكن بدلاً من البحث في خلفياتها السياسية والإقتصادية والقومية، لجأ المؤرخون، كشأنهم في تفسير بعض أحداث التاريخ، لجأوا إلى ابتداع حكاية، تعجز عن تقديم تفسير علمي لتلك النكبة الكبيرة، التي شملت آل برمك جميعهم. وهي حكاية جعفر البرمكي والعباسة بنت محمد المهدي، أخت هارون الرشيد.

تذهب تلك الحكاية إلى أن هارون الرشيد كان يحب جعفر بن يحي البرمكي واتخذ منه وزيراً وجليساً يأنس إليه. كما كان، أي الرشيد، يحب أن تحضر أخته العباسة بنت المهدي مجلسهما، لما لها من مكانة خاصة في نفسه. ولكي يقضي وقته مع صديقه ومعها دون حرج ديني، عمد إلى تزويج جعفر بها، على أن لا يختليا ببعضهما، ومنعهما من ممارسة حقهما الشرعي. وحرص على أن يبقى زواجهما مجرد زاوج شكلي فحسب، ليهنأ بوجودهما معاً في مجلسه. فلجأت العباسة إلى خدعة، تمكنت بها من الإختلاء بجعفر ومعاشرته وهما في حالة سكر، وحملت منه. ولما علم الرشيد كتم غيضه، وأخذ يدبر أمره للبطش بجعفر وأسرته كلها. وقد تمكن منهم على حين غرة وبطش بهم وحرَّم على الناس إيواءهم أو التستر على الفارين منهم. ولم يقدم لنا أحد تفسيراً لمعاقبة الرشيد أسرة آل برمك جميعهم، بجريرة مافعله أحد أفرادها، وهو جعفر، إن كان قد فعل ذلك حقاً، ولا تفسيراً لعدم توقيع العقاب على العباسة، شريكة جعفر في ممارسة حق شرعي لها وله، يقره الدين، بل ويأمر به.

وهذا مثال آخر يؤكد الميل البشري إلى تفسير أحداث التاريخ، لاسيما الغامض منها، بالمؤامرة وحدها.

 

 

أمثلة من تاريخنا المعاصر:

يحتل وطننا العربي موقعاً مهماً في خارطة العالم القديم والحديث. وقد تولت كتابات وأبحاث كثيرة توضيح وشرح هذه الأهمية، مما يعفينا من الخوض في هذا الأمر. وقد أضيف إلى الموقع عامل جديد، زاد من أهمية الوطن العربي، بالنسبة للإقتصاد العالمي. فاكتشاف النفط، الطاقة المحركة لعجلة الصناعة والتجارة والمال والخدمات والرفاه البشري، في هذا العصر، جعل الوطن العربي مطمعاً للأقوياء وموضوعاً لمخططات وتآمر القوى العالمية، المتنافسة على النفوذ واقتسام ثروات العالم. ويمكننا الإشارة هنا إلى بعض المحطات في مسيرة التآمر، الذي استهدف الأمة، بمقوماتها وأرضها وثرواتها، بل وبوجودها كأمة، من حقها أن تتوحد في إطار دولة عربية واحدة قوية على امتداد الوطن العربي كله، كما توحدت أمم أخرى في هذا العالم.

فلسطين:

كان الإحتلال الإستيطاني الصهيوني لفلسطين وتشريد أهلها من أبرز مظاهر المؤامرة على الأمة العربية. وقد بدأ التخطيط وحبك خيوط المؤامرة، من قبل الحركة الصهيونية العالمية والحكومات الإستعمارية الطامعة بالموقع والطاقة، بدأ منذ القرن التاسع عشر الميلادي، أي منذ نشوء الحركة الصهيونية الحديثة، كما نعرفها اليوم. أما مراحل المؤامرة، فقد بدأت بالإتصالات السرية، بين زعماء الحركة الصهيونية وحكومة أهم وأقوى الدول الإستعمارية في ذلك الحين، وهي بريطانيا، مروراً بالمقترحات والوعود الرسمية والمشاريع التفصيلية، التي مهدت لاحتلال فلسطين، ثم رافقت نشوء الدولة الصهيونية ونشاطاتها وحروبها وجهودها في تفتيت الكيانات العربية المجاورة، أو إضعافها. ولما انحسر ظل بريطانيا من مستعمراتها في العالم وتقلص نفوذها، تكفلت الولايات المتحدة الأمريكية بمهمة رعاية الكيان الصهيوني ودعمه وحمايته. والسؤال، الذي يمكن أن نوجهه لمنكري المؤامرة، هو: هل ينطبق توصيف المؤامرة ومعناها اللغوي والإصطلاحي على ماحصل ويحصل في فلسطين، قبل احتلالها وبعده وحتى الآن، أم أن هذا كله كان مجرد إلتقاء مجموعة من الصدف العجيبة، التي لاعلاقة لها بمصالح الدول الكبرى وبالتخطيط المدروس والتآمر المسبق؟

مراسلات الشريف حسين ـ مكماهون

حبكت بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، أكثر من مؤامرة في الوقت نفسه، منفردة أو متعاونة مع حليفتها ومنافستها فرنسا. فتمكنت في إحداها من تخدير الشريف حسين، حاكم مكة، بالوعود التي تضمنتها رسائل هنري مكماهون، نائب ملك بريطانيا في مصر، الموجهة إلى الشريف، خلال عامي 1915 و 1916م، والتي أبلغه فيها بأن بريطانيا ستعترف بعد انتهاء الحرب باستقلال الأراضي العربية في المشرق العربي ووحدتها تحت حكمه. مؤكداً له بأن ملك بريطانيا يرحب باسترداد الخلافة الإسلامية إلى يد عربية، تنتمي إلى الدوحة النبوية المباركة. وكان الهدف من وراء تلك الوعود إقناع الشريف بقيادة ثورة مسلحة ضد الدولة العثمانية. وقد التزم الشريف بما طُلب منه، ولم يلتزم البريطانيون بما وعدوا به. وبتلك الرسائل والوعود، وبالنشاط الإستخباراتي تم استدراج الشريف، ليضع كل قدراته ومكانة أسرته وعلاقاتها ونفوذها في خدمة المشروع الإستعماري، دون أن يعرف كل خفاياه.  .

وما أن أدى الشريف حسين مهمته وقام بدوره، حتى استغنى البريطانيون عن خدماته، وتركوه فريسة للرجل القوي في نجد، عبد العزيز آل سعود، الذي وجه جيشه نحو الحجاز، فاحتل الطائف، وأخذ يضغط على سلطة الشريف في مكة. واستنجد الشريف بحلفائه البريطانيين. لكنهم أبلغوه بأنهم يقفون موقف الحياد في ذلك الصراع. وأوحوا له عن طريق بعض ذوي الرأي، بالتخلي عن الحكم لإبنه علي، وهكذا فعل، وغادر مكة إلى جدة ومنها إلى العقبة. ثم غادر العقبة، بعد أشهر قليلة من وصوله إليها، بناءً على طلب من البريطانيين، الذين خشوا عليه، كما ادعوا، من أن يهاجمه ابن سعود. فركب البحر على بارجة بريطانية إلى منفاه في قبرص عام 1925م. ومكث في قبرص ست سنوات رهن الإقامة الجبرية، لايستطيع أن يزور حتى أبناءه، الذين وضع البريطانيون إثنين منهم على عرشي العراق (فيصل الأول) وشرق الأردن (عبد الله)، ضمن المخطط البريطاني ـ الفرنسي، لتقسيم المنطقة. وظل الشريف حسين يعاني في تلك الجزيرة، إذلالاً وعوزاً وسقاماً نفسياً وجسدياً، إلى أن اشتد به المرض، فسُمح له بالعودة إلى عمَّان، ليبقى فيها حتى توفاه الله، عام 1931م.

سايكس ـ بيكو

تقاسمت بريطانيا وفرنسا، المشرق العربي، وفق ما عُرف باتفاقية (سايكس ـ بيكو)، نسبة إلى الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، اللذين وضعا تفاصيل هذه الإتفاقية أثناء الحرب العالمية الأولى، خلال عامي 1915م و1916م، أي في الفترة نفسها، التي كان مكماهون يراسل الشريف حسين باسم الحكومة البريطانية ويجود عليه بالوعود السخية، وفي الفترة نفسها، التي كانت تجري فيها الإتصالات بين الحركة الصهيونية العالمية والحكومة البريطانية، والتي توجت بوعد بلفور، وهو الوعد الذي تضمنته رسالة وزير الخارجية البريطانية، آرثر جيمس بلفور، بتاريخ 2 نوفمبر 1917م، إلى اللورد ليونيل روتشيلد، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وشرعت الدولتان، بريطانيا وفرنسا في تنفيذ بنود إتفاقية سايكس ـ بيكو فور انتهاء الحرب. فهل تندرج هذه الإتفاقية وخلفياتها وتزامنها مع مراسلات مكماهون والشريف حسين ومع وعد بلفور، هل تندرج ضمن توصيف المؤامرة، أم أن من يقول بذلك سوف يتهم بالإنتماء إلى نظرية المؤامرة؟

عندما مات الشريف حسين كانت إتفاقية سايكس ـ بيكو قد نُفذت بكاملها. فبريطانيا حصلت على حق الأنتداب في العراق وشرق الأردن وفلسطين ومدت نفوذها إلى شبه الجزيرة العربية والخليج العربي. وحصلت فرنسا على الإنتداب في سوريا ولبنان. وكان على بريطانيا أن تسحب رجلها، الملك فيصل الأول، من دمشق إلى بغداد، وتعوضه عن عرشه في سوريا بعرش العراق، لتخلي سوريا للفرنسيين، وفقاً للإتفاقية المذكورة، بين الحليفين اللدودين.

مملكة عبد العزيز آل سعود

بصورة متوازية مع تمزيق المشرق العربي، وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو، ومع الجهود المنظمة لإقامة دولة الصهاينة، وُضعت الترتيبات اللازمة لإقامة مملكة في شبه الجزيرة العربية، يحكمها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، تضم نجد والحجاز وملحقاتهما. حيث تم اكتشاف الثروات النفطية، التي حثت البريطانيين على وضع المخططات والمضي في تنفيذها، رغماً عن كل تعهداتهم للعرب، وللشريف حسين على وجه الخصوص. فكُلف عدد من أكفأ ضباط المخابرات البريطانية بالعمل في المنطقة وقيادة عملية تنفيذ تلك المخططات. ومن أبرز الأسماء، التي تداولتها الكتابات المختلفة: توماس إدوارد لورانس، المعروف بلورانس العرب، الذي عمل مستشاراً للشريف حسين ولابنه فيصل الأول وقائداً لحملتهما العسكرية المساندة للقوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى. وهاري سانت جون فليبي، المعروف بالحاج عبد الله فليبي، مستشار السلطان عبد العزيز آل سعود. وبرسي كوكس، الذي غطى نشاطه، مع زميلته جيرترود بيل، العراق وإيران ومناطق الخليج العربي وما عرف فيما بعد (عام 1932م) بالمملكة العربية السعودية. هذه مجرد بعض الأسماء البارزه، وخلفها عشرات الأسماء، التي عُرف بعضها، والكثير منها لم يُعرف.

 

كل هذه الأعمال، من تخطيط في الخفاء واستغفال للقادة العرب وتنفيذ محكم ومتدرج، حتى اكتملت صناعة الواقع السياسي والإقتصادي والثقافي العربي على النحو الذي عشناه ونعيشه اليوم، لايمكن أن نعزوها إلى تراكم مجموعة من الصدف، بل هي مؤامرات، حُددت أهدافها ورُسمت خططها وهُيئت أدواتها ونُفذت مراحلها، في غفلة من العرب. وماتزال المؤامرات متواصلة، وآخرها الفوضى الخلاقة، التي تشوينا الآن، والشرق الأوسط الجديد، الذي سيتكفل بمزيد من تمزيق هذه الأمة، التي نعمت بالموقع الجغرافي المتميز وبمصادر الطاقة الغنية. لكن تبعية حكامها للقوى الإستعمارية وهزال نخبها الثقافية وضعف حركاتها السياسية. حوَّلت هذه النعمة إلى نقمة وبلاء عظيم. 

 

مسؤوليتنا نحن:

إذا كان الآخرون، من قوى إستعمارية ومصالح اقتصادية عالمية كبرى، يتآمرون علينا، ويتسببون في تمزيقنا وضعفنا، فما هي مسؤوليتنا نحن؟ هنا نأتي إلى الجانب الآخر من المعادلة، وهي مسؤوليتنا عما وصلنا إليه من ضعف وانحطاط وتمزق وتبعية، ما كان للمؤامرات الإستعمارية وحدها أن توصلنا إليها، لولا توفر عوامل أخرى خاصة بنا.

ويمكن أن نتبين حجم مسؤوليتنا من خلال دراستنا لهذه العوامل الخاصة، سواءً منها العوامل الذاتية، المتمثلة بثقافتنا وأنماط تفكيرنا وعاداتنا وتقاليدنا ومزاجنا النفسي، وغيرها من العوامل المكونة للشخصية العربية. أو العوامل الموضوعية المتفاعلة مع العوامل الذاتية والمؤثرة فيها، كالإقتصاد والبنى الإجتماعية والأنظمة السياسية والخصائص الجغرافية وغيرها. ولكي لانضل الطريق، لابد من أن ندرس هذه العوامل الخاصة بنا في إطار الأوضاع الدولية السائدة والمصالح الكبرى في العالم، لنقف بذلك على مدى تأثير هذا كله وتداخله مع نسيج المؤامرات، التي أشرنا إلى بعض منها. فبهذا سيستقيم الفكر ويصوَّب التفسير، ونتجاوز النهج القاصر والمضلل، المعتمد على عامل واحد في التفسير، كالمؤامرة مثلاً، التي يكتفي بعضنا بتعليق كل مصائبنا عليها وحدها، ويكتفي بعضنا الآخر بإنكار وجودها أصلاً. 

فالمؤامرة فعلت فعلها، مستفيدة من جملة العوامل الخاصة بنا. وكل مؤامرة تحيكها الدول ذات المصالح الكبرى في العالم تسبقها دراسات تاريخية واجتماعية ونفسية واقتصادية وثقافية ودينية. وليس سوى البلداء وحدهم من يمكنهم أن يضعوا سياساتهم دون معرفة وخبرة وعلم، توفرها دراسات متخصصة. وفي هذه المعادلة، التي نتحدث عنها، يتضح أننا نحن البلداء، لافتقارنا إلى العلم والمعرفة والخبرة. تصدينا للمؤامرات بعفوية وجهل وفشلنا في كل مواجهاتنا. ثم عالج بعض مثقفينا هذه الإشكالية علاجاً قاطعاً غير نافع، بإنكار المؤامرة جملة وتفصيلاً، وظنوا أنهم بذلك أراحوا واستراحوا.

من هنا ندرك بأن اللوم يجب أن يقع علينا نحن، أكثر مما يقع على المتآمرين. فهم يخدمون بمؤامراتهم مصالح بلدانهم. حتى وإن سببت مؤامراتهم لشعوب الأرض كوارث ومآسي، تتجاوز في بعض الأحيان مستوى الإذلال والتجويع والتشريد إلى الإبادة الجماعية، التي تتناقض مع مايسوِّقونه من مبادئ ويرفعونه من شعارات إنسانية. ولكن هذا شأنهم وهذه قيمهم وهذه مصالحهم. فأين نحن من هذا كله، وأي مصالح نخدم؟

 

خاتمة:

من المؤلم أن الحياة الإنسانية الكريمة، التي نحلم بها، أصبحت أشبه بالسهل الممتنع. لغياب أهم شرط من شروطها، وهو الوحدة العربية، التي سيدخلنا التفكير فيها إلى قلب المؤامرة الكبرى على هذه الأمة، ويجعلنا ننظر إلى مثقفينا المنكرين لوجود المؤامرة على أنهم في واقع الحال مظهر من مظاهر المؤامرة، حتى وإن كان معظمهم لايعي ذلك. فالمؤامرة تتضمن في ما تتضمنه تشويه الوعي وتزوير الحقائق وتجنيد المثقف العربي، دون أن يدرك، للإنسياق في مسار الجهود الإستعمارية، الهادفة إلى تدمير وعي الأمة بهويتها الواحدة[4]، والقضاء على حلمها الكبير، المتمثل في توحيد وطنها العربي في إطار دولة عربية واحدة، تعيد للإنسان العربي كرامته وتحمي مصالحه وتكفل رخاءه وتنمي قدراته وطاقاته الإبداعيه.

وخلاصة القول: إن المؤامرة حقيقة لامراء فيها، يؤكدها التاريخ ويجسدها الواقع الراهن في الوطن العربي. ولكن المؤامرة وحدها لاتفسر الأوضاع التي مررنا بها والأوضاع التي انتهينا إليها. فهناك عوامل أخرى، هيأت لنجاح مؤامرات الآخرين علينا، تتمثل بالعوامل الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. كما تتمثل بالأنظمة الحاكمة في الوطن العربي، بسماتها المعروفة وتبعيتها الفاضحة للقوى الإستعمارية، وبالحركة السياسية العربية، بتبعثرها وعجزها الواضح، وبالمثقف العربي بسطحيته وقصوره. ولابد أن نضع هذا كله بعين الإعتبار. فلا ننكر المؤامرة ولا نغفل هذه العوامل مجتمعة. إذا أردنا أن نفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث مستقبلاً. فالفهم الصحيح يشكل مدخلاً للعودة إلى مشروعنا الكبير، وهو الوحدة العربية، الذي بدونه لن نستطيع أن نواجه المشروع الكبير للآخرين، مشروع التقسيم والتفتيت والتطويع والسيطرة ونهب الثروات. فالمشاريع الكبيرة المعادية لايمكن مواجهتها إلا بمشاريع كبيرة مضاهية لها، قادرة على مقاومتها وإفشالها، كمشروع الوحدة العربية. أما المشاريع الصغيرة، بمختلف مسمياتها، فليست سوى روافد هزيلة، تدور في فلك الغرب الإستعماري وتصب في نهاية المطاف في نهره الجارف. أدركنا هذا أو لم ندرك. 

ودعونا نهيئ للمحاضرة القادمة، وعنوانها (الوحدة العربية)، بسؤال ملح، نطرحه على أنفسنا وهو: لماذا فشلت كل المحاولات لتحقيق الوحدة العربية، أو حتى إقامة أشكال بدائية من التعاون والتنسيق والتكامل الإقتصادي والسياسي؟ ماهو دور المصالح العالمية الكبرى في هذا الفشل، وماهو دور الحركة السياسية العربية والمثقف العربي والحاكم العربي؟ إنه سؤال مركب، يتطلب قدراً من التفكير وكثيراً من الجهد البحثي، الذي أتمنى أن يضطلع به باحثونا ومثقفونا.

* ورقة قُدِّمت ضمن البرنامج الثقافي للتجمع الوطني لمناضلي الثورة اليمنية - بتاريخ 24  ديسمبر 2015م

 

 

 

 

 


[1]أنظر: جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مج 2، ط 1،  بيروت، 1973م، ص 477.

[2] نظراً لاضطراب الروايات حول عبد الله بن سبأ وما نسب إليه من أفكار غريبة وقدرات هائلة، على إثارة الفتن وإذكاء الحروب والتحكم بعقول ومواقف قادة المسلمين الأوائل ودفعهم إلى الفتك بعضهم ببعض، شكك كثير من الباحثين والعلماء في حقيقة وجود هذه الشخصية ونقدوا الروايات التاريخية وفندوها. ومن ابرز هؤلاء: طه حسين ومحمد كرد علي وعلي الوردي وغيرهم. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الشخصية قد وُجدت فعلاً أم لا، فإن الدور الذي نسب إليها، هو دور لايمكن التسليم بصحته.

[3]لازم هذا الميل إلى التفسير الأسطوري للظواهر البشرية والطبيعية غير المفهومة، لازم عقل وخيال الإنسان، حتى في مراحل متقدمة من مراحل العلم والإبداع النظري والعملي. ففي أوج تطور التفكير العلمي لدى اليونانيين في القرون الثلاثة، التي سبقت ميلاد المسيح عيسى بن مريم، كان اليونانيون يسلِّمون بوجود آلهة متعددة. كل إله منها يتحكم بظاهرة من ظواهر الطبيعة كما يتحكم بوقائع الحياة البشرية. كإله الخصب وإله الجمال وإله الرياح والأمطار وإله الحرب ...إلخ. وكانوا يتصورون أن مجتمع الآلهة مجتمع هرمي، يشبه في بنيته مجتمع البشر. فللآلهة جميعها إله أكبر تنضوي تحته. وتتزاوج الآلهة وتتوالد وتتخاصم وتتحارب وتسيطر على أحداث وظواهر الطبيعة كلها، كما تسيطر على حياة البشر، فتكافؤهم وتنزل العقاب بهم وتناصرهم في حروبهم، أو تحارب في صفوف أعدائهم. على هذا النحو حاول العقل البشري أن يفهم الظواهر الطبيعية والإجتماعية والأحداث التاريخية، من خلال إعطائها تفسيراً أسطورياً، قبل أن يتمكن من وضع تفسير علمي لها.

[4]الهوية تمثل في الحالة العربية الراهنة قاعدة أساسية لاغنى عنها، للتماسك والمقاومة والنهوض. وبدونها لن نستطيع أن نتبين مصالحنا وندافع عن وجودنا ونقاوم المحاولات الهادفة إلى تذويبنا ضمن كيانات مجاورة، في إطار الشرق الأوسط الجديد، تفوقنا قوة وتماسكاً، وعلى رأسها تركيا وإيران وإسرائيل. فإنكار الهوية الواحدة، سيرسخ تمزقنا وتشرذمنا وضعفنا وعجزنا عن الدفاع عن مصالحنا، التي سطت عليها مصالح الدول الكبرى في العالم ومصالح الدول القوية في الإقليم. 

 

قراءة 3068 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة