علبة فول مدمس

الثلاثاء, 05 كانون2/يناير 2016 19:50 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

كانت الهزة الثانية التي اتعرض لها في أقل من نصف شهر. هزة زلزلت كياني، وأعرف انها ستضل تربكني لأيام قادمة وربما لأشهر. كان ذلك بسبب قراءتي لقصة "المعطف" للروسي غو غول. اردت ان يكون شهر يناير هو شهر قراءة القصة القصيرة وأردت ان أبدأ من أبعد نقطة ممكنة. لم أقدر على اكمال قراءة المعطف. يقال ان معظم الادباء الروس اللاحقين كانوا قد خرجوا من تحت معطف غو غول، لكني أقول أن الثورة البلشفية (أعظم ثورة في القرن العشرين) كانت قد خرجت أيضا من تحت ذات المعطف.

ثمة من يعتقد ان الادب منتج برجوازي، أو هو صورة فنية لوعي الطبقة الحاكمة. شخصيا أقنعني مكسيم غوركي وتشيخوف بأهمية الادب ورسالته ولم يقنعني تنظير تروتسكي وأعرف ان سارتر الذي قرأت له شذرات في هذا المجال (الادب الملتزم) اعرف انه لن يقنعني. لم يكتب سارتر بروح الاديب ولكن بروح المفكر وضمن قالب النظرية. في الادب عليك ان تكون حقيقي مع كل حرف يخطه قلمك وهو ما سيتعذر مع الفكر، مع السياسة او حتى مع الثورة. كل تلك الأعمال العظيمة التي تتطلب تكتيكات هي ايضا تتطلب قدرا هائلا من الحقيقة، غير ان قدر يسير من عدم الحقيقة ولغرض التكتيك وحده لا يخدش عظمتها بعكس الادب والفن. قد يتشوه الادب من مجرد هبوب نسمة جاءت من غير مصدرها، وستنجح هذه النسمة بحرف العمل كله ليصبح قدره في النهاية مستنقع الادعاء. مقابل ايدلوجية الحاكمين والتي تتسرب للاوعي وقد تتحكم بالعمل الادبي، هناك ايضا ايدلوجية الضحالة في أي عمل آخر، ما يعني اننا نواجه نفس المصير. أردت ان اعبر عن الفكرة بلفظة الاصالة، لكن الشيء الذي نجح غو غول من خلاله في زلزلة زوايا بعيدة ومنسية في الداخل الانساني لم يكن الاصالة ولكن الحقيقة ولا شيء غيرها.

الهزة الاولى

كانت الهزة الاولى قبل ايام عندما صادفت منشورا لم يتجاوز العشر كلمات. صادفته في صفحة الرفيق معن دماج ومن شدة ما ارعبني فأنا خرجت من صفحته مسرعا حتى انني لم احفظه. لكن المعنى كان قد انغرس في اﻻعماق.

كان المنشور عن شعب لايزال فيه الكثيرين يفرحون، يحتفلون لمجرد انهم حصلوا على علبة فول مدمس. نعم علبة فول مدمس.

باعتقادي لا تأتي قوة الكلمات المزلزلة من الافكار التي تحويها، ليس من صياغتها الجميلة، او حتى بساطة التعبير، لأن تلك القوة الرهيبة تأتي من قدرتها على ملامسة الواقع. هذا الواقع نحن نعيش مرارته كل يوم لكننا تعلمنا بما يكفي ان نتعالى عليه لهذا ستصدمنا الحقائق الصغيرة أكثر مما تفعل الحرب المجنونة وهي تدور على بعد بضع كيلو مترات.

هذا التعالي والكتابة عن اعياد الميلاد كما فعلت انا في المنشور السابق هو ما يحق لنا اعتباره ايدلوجية الطبقة الحاكمة ووعيها، أما الادب الحقيقي - وما الثورة إلا أحد النصوص الجميلة - فسيظل مرآة الوجود كما هو لا كما يتراءى لنا. اذن الادب ليس ايدلوجيا، هو حتى ليس ايدلوجية المقهورين، بل هو الوعي في أقصى تجلياته ومن هنا تأتي سلطته الحقيقية.

قراءة 1937 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة