جـار الله عمر (1942 – 2002)

الخميس, 18 أيلول/سبتمبر 2014 15:54
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

جار الله عمر هو واحد من كبار رجالات اليمن في تاريخه المعاصر، التاريخ الذي كان قد بدأ يُخرج فيه هذا البلد منذ أواسط ستينات القرن الماضي، فيما يشبه العملية القيصرية، من العالم القديم الذي كان فيه إلى العصر الحديث بكل التباساته. وكان جارالله من أبطال تلك العملية القيصرية المؤلمة في شطري البلاد الشمالي والجنوبي. شمالي هو في هويته اليمنية. مناضل معروف في صفوف الحركة الوطنية في الشمال منذ أول شبابه. لكنه اختار أن يكون جنوبياً في الفترة التي كانت قد بدأت تنضج فيها الشروط بعد تحرير الشطر الجنوبي من الاستعمار لبناء دولة عصرية على أنقاض عهد طويل من السيطرة البريطانية على ذلك الشطر. فكان جار الله من ابطال عهد الاستقلال، في جمهورية اليمن الديمقراطية ومن أبطال التحولات التي حصلت فيها في المراحل المختلفة من تاريخ قيامها، قبل أن تزيلها من الوجود الأعاصير التي هبَّت عليها من داخلها.

كان جار الله، قبل أن يصبح واحداً من أركان تلك الجمهورية الجديدة في الجنوب، قد بدأ النضال في الشمال بعد انتصار الثورة فيها (1962) وقيام الجمهورية على أنقاض الملكية الامامية. وقد قادته مشاركته في النضال كوطني يمني ينتمي إلى حركة القوميين العرب إلى السجن لمدة ثلاثة أعوام، وذلك في أواخر عقد الستينات من القرن الماضي. وكانت أعوام السجن تلك مرحلة تأسيسية مهمة في حياته. فقد شكَّل مع بعض إخوانه من يسار حركة القوميين العرب تنظيماً ماركسياً باسم "الحزب الديمقراطي الثوري" معلنين بذلك استقلالهم عن الحركة الأم. وكان جار الله مع إخوانه هؤلاء يقرأون في السجن الأدبيات الماركسية الكلاسيكية والحديثة. وقادته تحولاته الفكرية والسياسية إلى التنقل بين شطري اليمن، مشاركاً هنا وهناك في النضالات والمعارك والتحولات والتجارب. لكنه استقرّ منذ أوائل السبعينات في الشطر الجنوبي ليصبح واحداً من أركان الدولة الجديدة الناشئة، مع رفاق درب وفكر من قدماء "حركة القوميين العرب" كانوا قد تحولوا مثله إلى اليسار. وشكلوا "الجبهة القومية" كإطار لكفاحهم الوطني في جنوب اليمن. وكان من بين أولئك الرفاق عبد الفتاح اسماعيل وفيصل وقحطان الشعبي وسالم ربيع علي وعلي ناصر محمد وصالح مصلح وآخرين. وكثيرون من أركان تلك الجبهة ومن مؤسسيها كانوا شماليين مثل جار الله. ومعروف أن تلك الجبهة قد بدأت فور تأسيسها بإعلان الحرب على الاستعمار البريطاني معتمدة الكفاح المسلح من أجل تحرير البلاد منه ومن السلاطين الذين كان البريطانيون يحكِّمونهم على مناطق البلاد كوسطاء لهم في تمكين سيطرتهم. وقد استطاعت "الجبهة القومية" ومعها فريق من اليساريين في حزب "اتحاد الشعب الديمقراطي" وفي حزب "الطليعة" من الانتصار على الاستعمار البريطاني وتحقيق الاستقلال لليمن الجنوبي. وفي تلك الفترة بالذات، وقبيل الحصول على الاستقلال، كان قد بدأ يحصل تحول في فكر "الجبهة" في اتجاه اليسار بتأثير من التحولات التي كانت تحصل في فكر حركة القوميين العرب في لبنان وفي فلسطين وفي بلدان عربية أخرى. وكان أركان الجبهة ينتمون إلى تلك الحركة. وكانوا من أوائل الذين انخرطوا في ذلك التحول وأعلنوا استقلال حركتهم عن المركز.

إلاَّ أنَّ تأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية، على قاعدة تلك التحولات، قد ترافق بالكثير من الأخطاء التي اعتبرت فيما بعد من قبل أصحابها أخطاء طفولية شبيهة بما كان لينين قد أعطاه في أحد كتبه الخاصة بتلك الأفكار، وسمّاها "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية". إذ جرت محاولات لتطبيق مشوَّه لأفكار الماركسية في السياسة وفي الاقتصاد في شكل أكثر تحديداً. إلاَّ أن جار الله كان منذ ذلك التاريخ من أوائل الذين أدركوا مخاطر تلك الأفكار. وبدأ مع عدد من رفاقه في النضال لتحرير الدولة من الآثار السلبية لتلك الأفكار. ولكن عملية التحرر تلك عند جار الله وعند زملائه لم تكن سهلة، ولم تتم دفعة واحدة. وكانت لي نقاشات عديدة مع جار الله ومع آخرين من قادة الدولة والجبهة حول كل تلك الأفكار وحول القضايا والتدابير المرتبطة بها. ولم يكن النقاش معه ومع رفاقه الآخرين سهلاً. وعندما نضجت المواقف العقلانية وتوضحت الرؤى عند جار الله تحول إلى عامل إيجابي في الانتقال من الخطأ إلى الصواب، ولو بحدود معيَّنة في البدء. وكانت تساعده في ذلك ثقافته والتنوع فيها. ومعروف أن جار الله كان يجمع في ثقافته بين سعة معارفه في الشئون الدينية وسعة معارفه في الماركسية في الوقت عينه.

وعندما بدأت الصراعات تتفجَّر داخل البلاد بين أركان الحزب الحاكم وأركان الدولة انضمَّ جار الله إلى عدد محدود من العقلاء الذين حاولوا الحد من تفاقم تلك الصراعات والحد من آثارها على دولة اليمن الجنوبي أولاً، ثم على شطري البلاد مجتمعين فيما بعد. ولم يدفعه الفشل في مهمته شبه المستحيلة إلى اليأس. ورغم أن البلاد كانت محكومة من قبل حزب واحد هو الجبهة القومية أولاً ثم الحزب الاشتراكي لاحقاً، فإنه بادر في النصف الثاني من السبعينات إلى الدعوة لإطلاق حرية تشكيل أحزاب، والخروج من وحدانية التمثيل السياسي إلى التعدد. غير أن دعوته لم تلقَ تجاوباً. لكنه لم يتخلَّ عن فكرته. بل هو تابع النهج ذاته في المرحلة التي أعقبت مأساة منتصف الثمانينات الدموية وبعدها، من دون يأس، ومن دون كلل. وكان على الدوام من أنصار وأبطال الوحدة اليمنية، كشعار وكمهمة للتحقيق. وكان اسم الحزب الشمالي، الذي شارك في تأسيسه مع رفاقه الشماليين داخل "الحزب الاشتراكي اليمني"، يحمل اسم "حزب الوحدة الشعبية"، بالمعنيين اللذين ترمز إليهما الكلمة، وحدة الحزب ووحدة شطري البلاد. لكنه كان يرى ضرورة أن يتم الانتقال إلى الوحدة اليمنية بالتدريج، أي بعد أن تستكمل عملية إنضاج شروطها. غير أن تلك الوحدة جاءت متسرعة ومفاجئة وفي شكل قسري، قبل أن تستكمل عملية إنضاج تلك الشروط. ولم يفلح هو خصوصاً وآخرون قليلون من رفاقه، برغم الجهود التي بذلوها، لجعل العقل أساس العمل في تلك المرحلة بديلاً من ردود الفعل المغامرة. ولأنَّ الوحدة جاءت متسرعة قبل أوانها، برغم الحاجة إلى تحقيقها كضرورة تاريخية، فقد انهارت بعد فترة قصيرة من قيامها في شكل مغامرة، ثم عادت فاستقرَّت بكلفة باهظة الثمن مادياً ونفسياً وفي كل المستويات. ولم يتوقف دفع هذا الثمن الباهظ، خلال عقد كامل من ذلك الاستقرار النسبي في دولة الوحدة. وكان جار الله من أكثر العاملين، بفضل وعيه، لإزالة الآثار السلبية لكل تلك المغامرات في اتجاهاتها ورموزها المختلفة.

ومعروف أن "الجبهة القومية" التي تسلَّمت في اليمن الجنوبي مقاليد السلطة في الدولة الناشئة كانت تقترب في أفكارها من الحزبين الآخرين اللذين كانا قائمين في البلاد. الأول هو حزب "اتحاد الشعب اليمقراطي" الماركسي الاتجاه والمرجعية، وكان زعيمه عبد الله باذيب. والثاني هو حزب "الطليعة" ذو الأصول البعثية، وكان زعيمه أنيس يحي. وكانت تقوم علاقات وثيقة بين الأحزاب الثلاثة. لكنها لم ترتقِ إلى مستوى الوحدة بين الأحزاب الثلاثة إلاَّ في وقت متأخر. وجدير بالذكر أن أول محاولة لطرح فكرة الوحدة بين التنظيمات الثلاثة في صيغة حزب جديد جاءت من خارج تلك الأحزاب. وكنت شخصياً من أوائل الذين طرحوا تلك الفكرة على قادة الأحزاب الثلاثة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي. جاء ذلك خلال زيارتين لي إلى عدن. الأولى في عام 1973 والثانية في عام 1975. طرحت الفكرة على رئيس الجمهورية سالم ربيع علي (سالمين) ورئيس الجبهة وعلى عبد الفتاح اسماعيل قائد الجناح الماركسي في الجبهة. وطرحتها على كل من عبد الله باذيب أمين عام حزب "الشعب الديمقراطي" وأنيس يحيى أمين عام حزب "الطليعة". ولقيت الفكرة ترحيباً مبدئياً من قبل الجميع. وكان جار الله من أوائل الذين رحبوا بالفكرة وعملوا على تحقيقها في داخل "الجبهة القومية". ولم تلبث تلك الفكرة أن اصبحت واقعاً عندما انخرطت الأحزاب الثلاثة في صياغة برنامج الحزب الجديد، "الحزب الاشتراكي اليمني"، وعقدت المؤتمر التأسيسي للحزب. وأصبحت اليمن، ابتداءً من النصف الثاني من السبعينات، تحكم باسم "الحزب الاشتراكي اليمني".

كان جار الله يحاول، في فترة الصراعات التي اجتاحت جمهورية اليمن الديمقراطية، أن يجنب التجربة مخاطر التصدع والانهيار. وكانت التجربة في بناء دولة حديثة ذات توجه اشتراكي، في بلد لم يكن قد خرج من تقاليد قبلية قديمة ومن تخلف اقتصادي واجتماعي عميق، مهمة صعبة مليئة باحتمالات الخطأ. وكان ثمة تمايز بين قادة البلاد في تلك الحقبة، بين من كانوا يريدون الذهاب بواقعية في التجربة إلى نهاياتها، وبين من كانوا يغلبون مصالحهم الخاصة على حساب بناء الدولة والمجتمع الجديدين. وكان جار الله من الفريق الأول. إذ هو لم يكن يسعى إلى مواقع عليا. واكتفى بأن يكون لفترة معينة وزيراً للثقافة. وكان مهموماً بنشر المعرفة والثقافة ونشر الوعي في المجتمع، لكي تكون القرارات والتدابير المتقدمة التي كانت تتخذها السلطات مفهومة ومستوعبة من الجمهور العريض. ومن المعروف أن دستور الجمهورية كان دستوراً متقدماً في كل ما يتعلق بالحداثة، بما في ذلك في موضوع الأحوال الشخصية. وكان الفضل في ذلك الإنجاز يعود لذلك العدد من العلمانيين في قيادة الدولة والحزب. وكان جار الله واحداً منهم.

كان جار الله في مواقفه العقلانية نموذجاً فذاً للشخصية اليمنية الديمقراطية. كان ضد العنف في الصراع وضد العنف في الحسم في ذلك الصراع. وكان ذلك موقفه داخل حزبه الاشتراكي، في فترة التأسيس وفي الفترات التي أعقبت التأسيس. وكانت تلك الفترة مليئة بالصعوبات. فأرهقت الحزب الناشئ، وأرهقت الدولة الديمقراطية الناشئة، وقادت إلى انهيار التجربة برمتها.

فكيف تمَّ ذلك الانهيار؟ وماذا كان موقف جار الله خلال تلك المرحلة ؟

وللحقيقة واستناداً إلى متابعتي لمجرى الأحداث، يمكنني القول إن الانهيار لم يأتِ فجأة. ولم يحصل دفعة واحدة. بل هو كان يتم وفق عملية كانت تتراكم فيها الأحداث، بعضها في الخفاء وبعضها الآخر في العلن. كان الصراع يشتد على أسس قبلية وشخصية. ولم يسعف الانتماء إلى الفكر الماركسي، ولم يسعف الاتجاه نحو الاشتراكية الذي كان يزداد رسوخاً في التخفيف من ذلك الطابع القبلي والشخصي في الصراع. وظلَّ ذلك الصراع يتطور ويقوى إلى أن حصلت مأساة عام 1986 التي استخدم فيها السلاح في حسم الصراع داخل المكتب السياسي. حصل ذلك في الوقت الذي كان فيه علي ناصر محمد رئيساً للبلاد. وكان فريقه يختلف مع فريق آخر بزعامة عبد الفتاح اسماعيل وعلي سالم البيض. وكانت حصيلة المأساة تلك موت عدد من كبار المسئولين في الدولة وفي الحزب. وكان بينهم عبد الفتاح اسماعيل أحد أوائل رواد الاتجاه الاشتراكي في اليمن منذ البدايات. وخرج علي ناصر محمد من البلاد بعد وقوع الكارثة. واستلم علي سالم البيض رئاسة الدولة والحزب. لكن الأزمة استمرت في صيغة أخرى. ولم يجد علي سالم البيض حلاً لها إلاَّ بالهروب نحو الوحدة الإندماجية مع الشمال. لكن ذلك الاندماج المتسرع بين شطري البلاد لم يسعف في حل الأزمة. بل هو فاقمها. وانتهى الصراع داخل دولة الوحدة بإعلان الحرب الإنفصالية بقيادة علي سالم البيض. وكانت حرباً مدمرة انتهت بالقضاء على الانفصال وبتثبيت دولة الوحدة بالقسر والإكراه بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح. جرى كل ذلك خلال بضع سنوات من التوتر والمغامرات. فأين كان جار الله من ذلك الصراع ومن تلك المغامرات ومن نتائجها ؟ وماذا كان موقفه؟

لم يكن من الصعب على المراقب أن يرى الدور الذي لعبه جار الله في تلك الفترة العصيبة. فقد كان، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل، ضد العنف وضد الحسم. كان مع الحوار والسجال ديمقراطياً. ورغم أنه كان صاحب رأي، وكان يستند في دعم رأيه إلى مرجعيته الفكرية الماركسية، إلاَّ أنه كان يمارس قدراً عالياً من البراغماتية والمرونة في التوفيق بين المواقف المختلفة حتى أكثرها تباعداً. وكان ينطلق في ذلك من قناعة ثابتة عنده بأن التعدد هو وحده الأساس الضامن لبقاء الحزب والبلاد موحدين.

مضى ما يقرب من العقدين على غياب جار الله عمر. لكن اليمن الذي كان يريد له أن يسير في اتجاه وحدته وتقدمه قد غرق بعد استشهاده بأزمات عديدة، إنتهت بثورة شاملة غيّرت أحد الرموز القديمة في السلطة من دون أن تتمكن من الانتقال إلى ما قامت من أجله. لكن الأمل يظل يحكم القوى الديمقراطية، ومن ضمنها الشباب الذين قاموا بالثورة، الأمل بالخلاص من آثار عقود من التخلف والصراعات، والبدء بنهضة جديدة تؤسس لدولة ديمقراطية حديثة.

* عن "الأهرام"

قراءة 1995 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة