مأساة طفل .. فاجعة وطن

الثلاثاء, 03 كانون2/يناير 2017 18:56 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

كثرت وتزايدت وتعاظمت المآسي والأحزان والقصص الانسانية المؤلمة والموجعة التي نصادفها ونسمعها ونقرأها في واقعنا هذه الأيام .. حتى بتنا نرى كل ما حولنا موشحاً بالسواد .. السبت الماضي وهو اليوم الأول من العام الميلادي الجديد (٢٠١٧م)، قررت اصطحاب طفلي ذي الخمسة أعوام في نزهة الى إحدى حدائق العاصمة صنعاء .. خرجنا سوياً، كنت أمسك بيده وأداعب تفاصيلها وملمسها الناعم، وانا أرسم أحلامي واخطط لمستقبله في خيالاتي وكيف يمكنني ان أجعله الأفضل، واجنبه شرور هذا الزمن والواقع الذي عصف بأحلامنا وطموحاتنا وتطلعاتنا اجمالاً.

حاولت تناسي كل منغصات الواقع واعيش مع طفلي اللحظة .. وبالفعل تمكنت من اسعاده لبعض الوقت .. وفي طريق عودتنا عند الخامسة مساءً، وتحديدا في شارع (الزبيري) لاحظت أمامي طفلا يبدو من مظهره انه في الخامسة عشرة من العمر، بثياب مرتبة لكنها متسخة ولا تكاد تقيه قساوة الطقس وتقلباته، لفت نظري عندما إنحنى الى الأرض أمام محل للتمور ليلتقط شيئا لم أدرك ما هو لبعد المسافة بيني وبينه، فطريقي كانت معاكسة لوجهته، فقد كنت أستعد لإيقاف باص ليقلني للمنزل .. دفعني فضولي حينها للعودة والاقتراب من ذلك الطفل لمعرفة مالذي التقطه من الارض .. لأتفاجأ بأن الكرتون الفارغ والمرمي أمام محل التمور لايوجد بداخله سوى أكياس فارغة وقصاصات من الكرتون وبقايا التمور (النواة) متناثرة هنا وهناك.

وبلا شعور وجدتني اندفع مسرعة لألحق بالطفل، وأنا أراجع ذاكرتي لأحصر ما تبقى في حقيبتي من مال كي اعطيه .. كون ما أملكه ليس راتبي الموقوف منذ أربعة أشهر، وإنما اليسير من بقايا قيمة مصوغاتي الذهبية، التي كنا نعتبرها نحن النساء للزينة واستهلكناها للأسف خلال هذه الشهور الطوال لتغطية العجز في المصروفات، وذلك حتى لا نمد أيدينا لمن صادروا حقوقنا واحلامنا وعاثوا بكل شيء جميل في بلادنا .. تابعت خطواتي مسرعة غير أبهة بيد طفلي الصغيرة التي كان يحاول سحبها متذمرا من هرولتي بهذه الطريقة الجنونية.

كنت اجري وفي قلبي الف غصة وغصة، ودموعي تتساقط بغزارة خوفاً مما تخبيئه الأقدار لكل الكادحين أمثالنا .. استطعت اللحاق بذلك الطفل البائس .. وقبل ان يلاحظني رأيته يلتقط كسرة خبر يابسة من الأرض ويضعها في فمه، ثم يخرجها بعد ذلك من فمه ربما لقساوتها .. توقفت أمامه وامعنت النظر في عينيه التي بدا عليهما حزن عظيم .. رمقني بنظرة بائسة رأيت فيها عتبا على الناس والواقع والحياة اجمالاً .. تعاظم وجعي وحزني وتسارعت دقات قلبي وكأنه سينفجر .. ودون مقدمات أخرجت ما كان داخل حقيبتي وهو مبلغ زهيد ربما يكفيه لوجبة واحدة لكنه كل ما أملك وناولته على استحياء .. لأتفاجأ بردة فعله تجاهي ورفضه القاطع أخذ المال حيث ابتسم لي بشيء من الخجل ثم ولى هاربا من أمامي.

تولدت في اعماقي حينها صرخة مدوية .. شعرت انني لو تمكنت من أطلاقها حينها لخسفت بقصور الفاسدين والمتلاعبين بأقوات هذا الشعب المغبون .. توقفت متبلدة وأنا أضغط بقوة على يد ولدي دون شعور وهو يخاطبني ببراءة: "مالك تتهابلي، هيا نروح، أرجلي توجعنا" .. تذكرت مأساة بلادنا حيث يعد التصريح بالجوع شيئا من العيب .. وادركت حينها ان هناك ملايين الأسر لا تزال تتستر عن حاجاتها وجوعها وبؤسها كون ذلك في نظرها يعد فضيحة.

ردة فعل ذلك الصبي البائس ايقضت بداخلي كل اوجاع واحزان الوجود .. لم أبالي بحديث طفلي، ولم أعر ألم قدميه اي اهتمام .. واصلت سيري مسرعة خلف ذلك الطفل .. تمكنت من اللحاق حيث كان قد توقف بجانب (بوفية) على رصيف الشارع يقلب أكياس القمامة ويخرج منها بعض بقايا الاطعمة ويضعها في جيبه .. لم يلتفت للبوفية أو يحاول أن يسأل الناس حاجته كي يشبع جوعه ويسد رمقه كباقي المتسولين .. دخلت البوفية مسرعة وطلبت من العامل أن يجهز لي أفضل سندويتش لديه، ويدي تمسك بيد ولدي .. وعيناي تلاحقان ذلك الطفل على الرصيف قبل ان يضيع عن نظري .. طلبت من العامل الذي جاءني بالسندويتش مسرعاً أن يذهب لذلك الذي يقلب أكياس القمامة ويناوله.

وبالفعل ذهب العامل مسرعاً وهو يحمل  بيده ما توقع أن يعود بدونه، بعد أن وجد في طلبي واستعجالي وجعاً وألماً غير مسبوق .. فقد تعاطف مع حزني خصوصا بعدما وصفت له كيف أن ذلك الصبي يأكل من القمامة .. وقفت اتأمل من بعيد .. كان العامل يناول الطفل كيس السندويتش والطفل يشير بالرفض .. ظل العامل يحاول معه ويحاول ويجري بعده دون جدوى .. واخيراً هرب الطفل من امامنا بعيداً حتى اختفى عن الانظار.

عاد الي ذلك العامل البسيط الذي بدا هو الاخر في عمر ذلك الصبي البائس .. عاد خائباً وفي نظراته حزن وخوف كبير من مستقبل يجهله هو الآخر .. ناولني السندويتش وظل يحدثني وهو مرتبك يتلعثم عن رفض ذلك الصبي اخذ السندويتش وكيف انه شكره مؤكداً انه لا يحتاج اليه، وكيف انه كرر محاولاته معه دون جدوى.

لحظتها شعرت بخيبة امل لم اشهدها من قبل .. ظلت دموعي تنهمر دون شعور وفي قلبي حزن هادر يكفي لصهر الكرة الارضية بمن عليها .. ظللت اتصور حال مئات آلاف الأسر ممن فقدوا وظائفهم وحرموا من مرتباتهم للشهر الخامس على التوالي .. كيف يواجه كل هؤلاء شبح الجوع الذي لا يرحم احدا؟!! .. وكيف ان غالبيتهم لا يزالون يكابرون ويتسترون على حاجاتهم وبؤسهم رغم ان واقع الحال اضحى مكشوفاً للعالم اجمع.

قصة هذا الصبي البائس صاحب الأنا والكرامة والاعتزاز بالذات .. تترجم حال ملايين الاسر المماثلة ممن لم يعودوا يجدون الخبز لاطعام اطفالهم .. آلاف الموظفين اضطروا لنقل أسرهم ومن يعولون للقرى كي يتجنبوا مضايقة أصحاب المنازل من المؤجرين الذي أجهزوا على ما تبقى من آدميتنا .. وهكذا هو الحال من سيء الى أسوأ .. فهذا هو الشهر الخامس والكل بلا مرتبات .. وللأسف لانزال جميعنا مطالبين بمواصلة الصمت والصمود الى أجل غير معلوم.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

 

قراءة 2884 مرات

من أحدث اروى الغرافي

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة