أخـــر الأخبــــار

 

قبل فوات الأوان

الإثنين, 12 أيار 2014 18:58
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

"أخالفك في الرأي، ولكني مستعد أن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك". قول ينسب إلى واحد من أشهر فلاسفة عصر التنوير في أوربا، وهو فيلسوف الحرية (فولتير)، الذي عاش في زمن بلغ الوعي فيه بأهمية حرية الرأي، لتفتح عقل الإنسان وتفجر طاقاته المبدعة، بلغ درجة عالية، بعد ليل مظلم طويل، سادته عقلية الكهنوت الكنسي المنغلقة المتعصبة، التي نصبت المقاصل لكل من عارض فكرها، وكل مشتبه، مجرد اشتباه، بأنه يشك بمسلماتها، وألقت بأجساد المفكرين والمبدعين، أحياءً، في أتون نيرانها المشتعلة، ليقضوا حرقاً، جزاءً لتجرؤهم على أن يفكروا تفكيراً مستقلاً عن ثوابت الكنيسة.

لقد مثل الفكر التنويري في أوربا معلماً من معالم النضال الإنساني في سبيل حرية الإنسان وتقدمه. وتجلى في أبهى صوره في ثورته الفكرية على تسلط الكنيسة وانغلاقها وتعصبها وإرهابها. ولكن إذا ما أمعنا النظر قليلاً، فسنجد، وهذا أمر طبيعي، أن تلك الثورة كانت، بوجهها الإنساني التحرري، مرتبطة بمصالح طبقة جديدة في المجتمع، متطلعة إلى بناء أوربا جديدة تتحقق فيها مصالحها. إنها الطبقة البرجوازية، التي قادت التحولات الكبرى في أوربا وفي العالم. فقادت حركة التوحيد القومي الأوربية ودفعت بالحركة الصناعية والتجارية والعلمية نحو الأمام. كل ذلك لتطوير صناعاتها وتوسيع أسواقها وتنشيط تجاراتها وتضخيم ثرواتها. ومن أجل تحقيق مصالحها الإقتصادية انطلقت هذه الطبقة في نشاط استعماري، غطى معظم بقاع العالم. فاحتلت البلدان الضعيفة واستعبدت شعوبها ونهبت ثرواتها وحرصت على إبقائها شعوباً مستهلكة وأسواقاً مفتوحة لتصريف منتجات مصانعها. وهذا هو الوجه الآخر للحرية الرأسمالية، وجه تولَّد عن هذه الحرية، وشكل نقيضها الموضوعي، في الوقت ذاته.

ولقول فولتير، الذي استشهدنا به هنا أشباه كثيرة، في تراثنا الإسلامي، سبقت عصر فولتير بقرون طويلة، وتميزت بكونها أكثر سمواً، في معانيها وفي غاياتها، وأكثر اهتماماً بالعلاقات الإنسانية وشمولاً لجوانبها الروحية والإجتماعية والعقلية والنفسية، بدءاً بالتوجيهات الإلهية للرسول الكريم: "أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" و "جادلهم بالتي هي أحسن" و "ولاتستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" و "لست عليهم بمسيطر" و "لا إكراه في الدين" و "لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، إلى القاعدة الإنسانية، التي رددها العلماء المسلمون عبر الأجيال، وتعاملوا مع مخالفيهم بموجبها: "قد يكون رأيي صواباً يحتمل الخطأ ورأيك خطأً يحتمل الصواب".

ترى لو أننا اهتدينا بهدي ديننا وتراثنا الإسلامي، الذي لايحتمل إلا تفسيراً واحداً، وهو التسامح تجاه المخالفين في الرأي والتعامل معهم بالمودة وبالحسنى والبحث عن القواسم المشتركة بيننا وبينهم، "فنتعاون في مانحن متفقون عليه ويعذر بعضنا بعضاً في مانحن مختلفين فيه"، أو سرنا على نهج الفكر الإنساني المتسامح تجاه الرأي الآخر، كما عبر عنه فولتير وغيره من مفكري عصر التنوير الأوربي، هل كان يمكن أن يرفع الأخ سلاحه في وجه أخيه، لمجرد أنه يختلف معه في الرأي؟.

ولست هنا بصدد الحديث عما يعرف اليوم بظاهرة (الإرهاب)، وعن منابعه الحقيقية، المتمثلة بسياسات الدول الإستعمارية وممارسات الأنظمة الإستبدادية التابعة لها، التي وُلدت هذه الظاهرة في رحمها وتبلورت كرد فعل لها، ثم تجاوزت حدود رد الفعل، إلى مايشبه الموقف العدمي، الذي لايكتفي برفض السياسات الإستعمارية وممارسات الأنظمة الإستبدادية، بل ويرفض معها كل شيء وكل الآخرين. فهذه ظاهرة تحتاج منا إلى وقفة خاصة، نظراً لتشعبها وتعدد مظاهرها وتشابك أسبابها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والفكرية والنفسية، وبالتالي تنوع الحلول الممكنة لمعالجتها، وفي مقدمتها العمل على تجاوز أسبابها وتجفيف منابعها (الهيمنة الإستعمارية والأنظمة الإستبدادية وانعدام العدالة وتفشي الفقر والجهل). لست إذاً بصدد الحديث عن هذه الظاهرة، فما مايهمني هنا، في هذه العجالة، هو مسألة الإختلاف في الرأي والإجتهاد، الذي بدأ يعبر عن نفسه بمواجهات مسلحة، بين المختلفين.  

إن اختلاف الآراء وتعدد الإجتهادات هو أمر مسموح به في ديننا. وقد تجلى في تاريخنا العربي الإسلامي، كما لم يتجل في تاريخ أي أمة من الأمم. إنه أمر ليس مسموحاً به فحسب، بل هو أمر مطلوب، تحت قاعدة " إختلاف أمتي رحمة"، التي ضمنها رسول الهدى معاني عميقة، يدركها العقلاء ويسيء فهمها الجهلاء. فعدم اختلاف الآراء وعدم تعدد الإجتهادات، يعني الجمود والتكلس والتخلف. في حين أن اختلافها وتعددها يعني الإبداع والتجدد والتطور ومواكبة تقدم الحياة وترشيد مسيرتها. شريطة أن تتفاعل الآراء المختلفة وتتلاقح الإجتهادات المتعددة بإيجابية، دون تعصب أو تشنج، قد يحولها إلى صراعات، تفرز حالة من الكراهية والحقد والنزوع إلى إزاحة الآخر وإقصائه وكبته وتجريم اجتهاداته وتحريم أفكاره. وهذا كله، أعني الكراهية والإقصاء وملحقاتهما، ليس من الإسلام في شيء. لأنه يدفع إلى الولوج في دائرة مرفوضة إسلامياً، وهي دائرة العصبية، التي تحوِّل المذهبية، أي الإنتماء إلى مذهب من المذاهب الإسلامية، إلى طائفية مقيته. والطائفية تعني تسييس المذاهب الدينية، وحشد المنتمين إليها وإثارة التعصب للأتباع والكراهية لمخالفيهم وشيطنة الآخر المخالف، تمهيداً لقمعه وتبريراً لاضطهاده. 

قد يقال: إن الصراع الدامي، الذي نشب بين قوى سياسية مسلحة، شاركت في الحوار الوطني، ثم هرولت فور اختتامه، إلى خنادقها ومتاريسها، لتوجه فوهات مدافعها نحو الآخر المخالف، لا يعبر عن مجرد اختلاف في الرأي. فاختلاف الرأي ليس إلا ذريعة، يتذرع بها المتصارعون، ليخفوا خلفها مصالحهم الخاصة. فهو إذاً صراع مصالح لاصراع آراء وعقائد واجتهادات فكرية. ولكننا، ومع تسليمنا واعترافنا بتعدد المصالح، نتساءل: ألا يتسع اليمن لمصالحنا جميعاً؟ ألا يمكن أن تتعايش وتتجاور، بل وتتكامل المصالح، التي تبدو متعارضة؟. بمعنى آخر: ألا يوجد سبيل لتحقيق مصالحنا المتعارضة، سوى سبيل الحرب والقتل والتدمير، ألا يضر هذا بمصالح الجميع؟ ثم ألا يمكننا أن نضع في اعتبارنا مصالح الشعب والوطن، التي يمكن في إطارها أن تتعايش وتتفاعل وتتكامل مصالح كل الجماعات والأفراد، المنتمين إلى هذا الوطن، مهما بدت متعارضة، دون حاجة إلى تدمير أنفسنا وبلدنا وشعبنا؟ لأن نتيجة هذا التدمير هي تدمير أنفسنا. وهي نتيجة سندركها حتماً، ولكن قد لاندركها إلا بعد فوات الأوان.

قراءة 1189 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة