موت الأفراد وموت الأمم

السبت, 29 تشرين2/نوفمبر 2014 19:52
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

إنطفأت الحياة في جسد أخي عبد الوهاب، المسجَّى أمامي. إختفى كل شيئ: نظرات عينية الحادة، إبتسامته وتجهمه، صوته المميز برقته إذا مارضي وعنفه إذا ماغضب، مشيته، حركة يديه، طريقة جلوسه، طريقة لبسه وشربه وتناول طعامه، وحتى طريقة إمساكه بلفائف الدخان، التي لم يستطع أحد أن يقلده فيها. إختفت كل صفاته، التي كانت تميزه والتي لم تكن تميزه عن غيره. أضحى مجرد قطعة متخشبة، تحركها الأيدي، كيفما شاءت، دون أن تبدي غضباً أو استياءً أو مقاومة. لمست رأسه، جبهته، أنفه، عينيه وخديه. تخيلته مايزال قادراً على تحريك عينيه نحوي، ولو بصمت، كما كان يفعل في آخر أيامه. ولكن عينيه انطفأتا مع انطفاء الحياة في كامل جسده.

عجيبة هذه الدنيا. يخال كل منا أنه محور حركتها، تدور بقضها وقضيضها حوله. تتنفس بتنفسه وتتحرك بحركته وتتوقف بتوقفه. وما الكائنات، من بشر وحيوان ونبات وجماد وهواء وماء، وغيرها، سوى مكملات لذاته ومستلزمات من مستلزمات وجوده. فإذا كان حاكماً، خيل إليه أنه غدا إلهاً، طاعته واجبه وخدمته مفروضه ومشيئته نافذة. وإذا كان محكوماً سلك مسالك عجيبة، لتأكيد مكانته في الكون. فتراه إما منافقاً متزلفاً، يبدي غير مايضمر، ينتهز الفرص إذا مالاحت، ويزاحم أقرانه، للوصول إلى عتبات الحكام ومواقع النفوذ ومخازن الثروة، مستخدماً كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، لبلوغ أهدافه. وإما مقاوماً لشرور الحياة ومساوئها، بكل ماأوتي من قوة وعزم، وأحياناً بكل ماأوتي من عنف. وإما منكفئاً منزوياً، منعزلاً عن الآخرين، ينسج من الأوهام عالماً خاصاً به، يبعده عن زحام البشر، بخيرهم وشرهم، وقد يفلح بذلك في أن يحافظ في داخله على توازنه النفسي وعلى بقية من قيم، أو ينتهي به الأمر إلى دائرة الجنون المريح. فإذا مافاجأ الإنسان الموت انطفاً وتبخر وتلاشى، مع كل أحلامه وأوهامه، وكأنه لم يكن. ومضت الحياة بدونه، كما كانت قبل وجوده، وكما هي بعد وجوده.

هل تختلف الأمم، في حياتها وموتها عن حياة الأفراد وموتهم؟ سؤال أُجيب عنه مراراً، إجابات يقتنع بها البعض وينكرها البعض الآخر. فالأمم تبدو كائنات حية، مثلها مثل الكائن الفرد. تمر بنفس المراحل، التي يمر بها. لها طفولتها وشبابها وشيخوختها، ثم فناؤها. تعيش الأمة ظالمة أو مظلومة، قاهرة أو مقهورة، ناهبة أو منهوبة، مهيمنة أو مهيمن عليها، متقدمة أو متخلفة، مبدعة أو متسولة في موائد الإبداع، التي تبسطها الأمم الأخرى. وقد تتبادل الأمم الأدوار، فتنتقل الأمة من موقع الضعف إلى موقع القوة، ومن موقع القوة إلى موقع الضعف. ثم تنتهي كما ينتهي أفراد البشر.  

وإذا كان قدر الأفراد أن لايُبعثوا في هذه الحياة من جديد، فإن قدر الأمم موضع خلاف. فالبعض يرى أن الأمة تفنى وينتهي شأنها تماماً كالإنسان الفرد، ولاتعود إلى الحياة من جديد. ومنهم من يرى أن الأمة، وعلى وجه التحديد، الأمة المبدعة، تتوارى في مرحلة الضعف، ولكن إلى حين. إذ ماتلبث أن تعود إلى مسرح الحياة، إذا ماتوفرت شروط عودتها، لتواصل دورها الحضاري من جديد. ولعل هذا الرأي هو الدافع إلى تسمية أحد الأحزاب العربية ب (حزب البعث)، أي بعث الأمة وأمجادها، بعد تخلفها وتدهور أحوالها. ولكن هل تمكن حزب البعث وأمثاله، من الأحزاب العربية المؤمنة بفكرة انبعاث الأمة من جديد، هل تمكنت من بعث الحياة في جسد الأمة، الذي تبدو أمارات الموت فيه اليوم أظهر من أمارات الحياة؟ أم أنها أسهمت، بدلاً عن ذلك، في تلاشي بعض أمارات الحياة، التي كانت ماتزال بادية عليه؟

سؤال قد تحتاج الإجابة عنه قدراً كبيراً من الموضوعية، وقدراً أكبر من الشجاعة الأدبية، لاسيما من قبل المنتمين إلى هذه الأحزاب. وهو سؤال قد يسلمنا إلى سؤال آخر: هل تفلح الأحزاب السياسية، التي تبلغ مرحلة الشيخوخة، هل تفلح في استعادة شبابها، وفي بعث الحياة في أجسادها المنهكة، قبل أن تحاول بعث الحياة في جسد الأمة، أم أن قانون الحياة سيدفع بها إلى دائرة الفناء، الذي لاينفع معه علاج ولا تصرفه رقية أو تعاويذ؟ سؤال نتمنى أن يكون جوابه إيجابياً مطمْئناً، واعداً بتجدد الأحزاب الحالية، فكراً وبرامج ونشاطاً، لتتجدد بتجددها حياتنا السياسية وحياة الأمة بكاملها.

الأحزاب تنشأ وتنمو وتترعرع وتشيخ، ثم تموت. وقد تفلح قياداتها وأعضاؤها في مدها بأسباب الحياة وبعثها من جديد، وقد تخفق. وهذا تحد لابد أن تخوضه القيادات والأعضاء بعزم وإيمان برسالة الحزب وتمسك بتراثه واعتزاز بتاريخه. فإذا تكاسلت وتراخت وأخفقت جهودها، فستنبعث الحياة بصور أخرى، على هيئة مكونات حزبية جديدة، ربما تكون أكثر تماسكاً وحيوية وتأثيراً، تحمل الرسالة، التي أثقلت كواهل الأحزاب الهرمة، وتنهض بالمهام الوطنية، التي تعب أسلافها في حملها.

ومهما اختلفنا في نظرتنا إلى مصائر الأمم، وفي نظرتنا إلى مصائر الأحزاب، كأدوات من أدوات نهضة الأمة وتطورها، فإننا لانختلف في نظرتنا إلى مصير الإنسان الفرد في هذه الدنيا الفانية. إنه مصير محتوم، يمثله الجسد المسجَّى أمامي، الذي لن نرى صاحبه بعد الآن، ولن نشهد انبعاثه في هذه الحياة من جديد، ولانملك سوى الإبتهال إلى الله أن يتغمد روحه بواسع رحمته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.     

قراءة 1618 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة