القضية الجنوبية وأزمة الحامل السياسي(1، 2)

الإثنين, 19 تشرين1/أكتوير 2015 21:23 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

في سياق التطورات على الساحة الجنوبية منذ انطلاق الثورة الجنوبية السلمية في العام 2007م برزت إلى السطح ظاهرة تحمل طابع المفارقة، أكدت حضورها بقوة في الحياة السياسية الجنوبية، وتتمثل هذه الظاهرة في عدم التناسب بين الزخم الجماهيري الشعبي المنخرط في فعاليات الثورة السلمية وبين مستوى أداء النخبة السياسية الجنوبية، فقد شهدت حالة الزخم الجماهيري للثورة الجنوبية تصاعدا مضطردا تنامت فيه أعداد المنخرطين في فعاليات الثورة السلمية التي بدأت بعشرات الضباط المبعدين من أعمالهم ووصلت في آخر الفعاليات إلى مئات الآلاف (إن لم نقل الملايين) والتي شهدت اعتصام الأشهر الثلاثة السابقة للحرب في كل من عدن والمكلا، بينما ظلت النخبة السياسية التي يفترض أنها تمثل الطليعة السياسية لهذه الملايين وصانعة الفكرة السياسية وراسمة الخطط العملية لاستراتيجية وتكتيك الثورة السلمية وتحديد أهدافها ومراحل تطورها وغاياتها القريبة والبعيدة، ظلت هذه النخبة متأخرة بعيدا عن مستوى الحماس والزخم الشعبي، وأدى هذا التفاوت بين زخم الجماهير وكفاءة النخبة، إلى تراخي العملية الثورية وتراجع الحماس لدى بعض قطاعات الشعب الجنوبي، وبمرور الزمن تحول التراخي السياسي إلى تباينات ونزاعات تنامت لتنتقل مما هو مبرر إلى ما لا مبرر له، بل وتحولت التباينات بين مكونات النخبة السياسية إلى مناكفات ومشاكسات سياسية تركت أسوأ الأثر لدى نشطاء الثورة الجنوبية ومناصريها من المواطنين العاديين.

الجذور الأٍساسية لأزمة الحامل السياسي

إن أزمة الحامل السياسي ليست أتية من الفراغ بل إن لها جذورها الموضوعية والذاتية، وأهم هذه الجذور:

 تغليب ما هو ذاتي في بعض الأحيان على ما هو موضوعي من خلال إخضاع القضية المحورية، قضية استعادة الجنوب وحريته وكيانه السياسي الوطني لأجندات ضيقة حزبية حينا ومصلحية حينا آخر والخلط بين تحرير الجنوب وبين مصالح بعض النخب السياسية المتصدرة للمشهد.

عدم التمييز بين المهمات العاجلة والملحة، مهمات التحرير واستعادة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها، وبين المهمات بعيدة المدى كشكل نظام الحكم واسم الدولة وغير ذلك مما ينبغي أن يقرره الشعب الجنوبي بكامله دون سواه، ولا يمكن أن ينجزه كيان سياسي أو مكون حراكي معين بمفرده وبعيدا عن الإرادة الشعبية الجنوبية.

استجرار الماضي والعيش على ما شهده من تناقضات وصراعات ارتبطت بطبيعة المرحلة التي نشأت فيها بما رافقها من سلبيات وإيجابيات ليست عديمة الأثر وتحويل هذا الماضي إلى مرمى جمرات يصب عليه البعض كل لعناتهم وشتائمهم.

عدم التعود على ثقافة الاختلاف والحوار والتعايش والقبول بالتنوع، والاستمرار في التشبث بالموقف الواحد ورفض ما عداه من الخيارات التي قد يجمع عليها معظم الشركاء السياسيين.

 عدم التعود على ثقافة القواسم المشتركة وإقامة التحالفات بين القوى السياسية المختلفة حيث تعود الكثير من السياسيين الجنوبيين على: إما أن يتفقوا في كل شيء فيندمجون في كلٍ واحد، وهذا خيار غير واقعي وغير قابل للحياة في عصر التعدديات والتنوع وحريات التعبير وا   لفكر والاختيار، وإما أن يبقوا مختلفين ولكن متنازعين ومتخاصمين بل وقد يصل الأمر إلى الصراع والمواجهة، وهو الآخر خيار مدمر ولا علاقة لها بالثقافة الديمقراطية وبثقافة الحريات العامة وحق الاعتقاد السياسي والفكري الحر.

ربما تكون لثقل القضية الجنوبية وضخامتها وتعقيداتها المختلفة مقارنة مع محدودية قدرة الحامل السياسي (عدم التناسب بين الحامل والمحمول) أثرا كبيرا في تعثر الحامل السياسي للوصول إلى ما يأمله الناس من مستوى للفعل السياسي والمبادرة السياسية.

الانسياق غير الواعي وراء المكائد والأسافين التي يزرعها أعداء الجنوب بين صفوف الجنوبيين من خلال استحضار بعض النزاعات السياسية والقبلية والمناطقية وغيرها من صراعات الماضي التي لم تندمل جراحها بشكل نهائي.

القضية الجنوبية وأزمة الحامل السياسي (2)

الجبهة الوطنية العريضة هي الحل

إن القضية الجنوبية بحجمها وضخامتها وعمق مدلولاتها ومشروعيتها وعدالتها لا يمكن أن يتصدى لها طرف سياسي بمفرده أو حتى تحالف سياسي لبعض الأطراف وتجاهل المكون الجمعي للشعب الجنوبي بكامل قواه السياسية وأطيافه الفكرية والثقافية وطبقاته وفئاته الاجتماعية.

ولقد جاءت المقاومة الجنوبية المسلحة في مواجهة العدوان والحرب خلال أشهر العام 2015م لتؤكد أن المشكلة ليست في الشعب الجنوبي وليست في المواطنين ولكنها في سوء تقدير بعض النخب السياسية لحساسية اللحظة السياسية وتعقيدات المشهد السياسي وأهمية التمييز بين ما يمكن وما ينبغي، فلقد جاء انخراط عشرات الآلاف من الشباب ومن القادة العسكريين في عملية المقاومة المسلحة واستشهاد المئات منهم جبنا إلى جنب من مختلف المناطق والأطياف والقناعات الفكرية والسياسية، ليؤكد أن الشعب في الجنوب ملتف حول قضيته ومصمم على استعادة دولته، وما على السياسيين إلا التعلم من هذا الدرس واستثمار هذه اللحظة السياسية التي قد لا تتكرر لتذويب التباينات وردم الفجوات التي تفصلهم عن بعض للوصول إلى حلم الشعب الجنوبي في الحرية والكرامة واستعادة دولته الجنوبية الحرة والديمقراطية والمستقلة.

ومن هنا فإنه سيكون من الضروري إبداع طريق جديد لم يألفه الجنوبيون من قبل لتحمل المسئولية الكاملة تجاه مصير الجنوب المستقبلي.

إن هذه ليس تمنيات يمكن أن يحلم بها المناضلون الجنوبيون الصادقون والمخلصون للجنوب وأبنائه، بل هو أمر قابل للتحقيق، ولقد برهنت المقاومة الجنوبية الباسلة التي أبداها شعبنا الجنوبي في مواجهة المشروع (الحوثي ـ العفاشي)، مثلما برهنت طوال مرحلة النضال السلمي، أن هذا الشعب قابل للتوحد وصناعة معجزات قد لا يتصورها الكثير من السياسيين عندما تتوفر له قيادة طليعية خلاقة ومبدعة، لكن هذا يستدعي استيعاب الممكنات المتوفرة على الأرض من ظروف ومعطيات ذاتية وموضوعية.

إن التغلب على أزمة الحامل السياسي تستدعي التوظيف الخلاق والمبدع للممكنات القائمة والتي يقدمها الواقع المعاش كل يوم وكل ساعة، وأهمها:

وجود حماس جماهيري منقطع النظير لدى معظم قطاعات الشعب في الجنوب، كانت المقاومة المسلحة أرقى وأنصع تجلياته، ما يسهل على النخبة السياسية التعامل مع الشعارات الواقعية ونقلها إلى مجال الممارسة من خلال تحويلها إلى برامج سياسية يمكن النضال بصورة مشتركة من أجل تحقيق متطلباتها.

انهيار المشروع المعادي وهزيمته في حربه ليس مع الجنوب فقط ولكن مع المحيط الإقليمي والدولي وانقسام شركاء الحرب فيما بينهم وهو ما يسهل على الشعب الجنوبي استثمار اللحظة السياسية لصالح مشروعه التحرري العادل.

وجود القاسم المشترك الأعظم بين مختلف القوى السياسية الجنوبية، وهو الحرية والاستقلال واستعادة الكيان الجنوبي المستقل ، والذي لا يختلف عليه جنوبيان اثنان، وهو ما ينبغي أن يكون الديدن الرئيسي لكل الفرقاء السياسيين الجنوبيين، فببلوغه يكون الجنوبيون قد قطعوا نصف الطريق نحو مستقبلهم الآمن المزدهر الحر الديمقراطي والتعددي.

ومن هنا تأتي فكرة الجبهة الوطنية العريضة التي دعونا لها مرارا، والتي قلنا إنها هي البديل العقلاني والممكن للخيارين المتطرفين القائمين على: إما الاندماج الكلي لجميع المكونات السياسية في كيان (واحد) وهي تجربة لم تصمد حتى في أكثر البلدان تطورا، وإما التنابذ والتشاحن والصراع بين أصحاب القضية الواحدة والهدف الواحد والوسائل المشتركة وهي ظاهرة مدمرة تبدد الطاقات وتفكك الكيان الوطني وتدخل البلد في متاهات الصراعات الثانوية وتسقط معها الخيارات الوطنية الكبرى وفي مقدمتها طموح الشعب الجنوبي في استعادة كينونته السياسية والشروع في شق طريق مستقبله المنشود.

واسمحوا لي في الختام أن أتعرض لفهمي البسيط والمتواضع لمفهوم الجبهة الوطنية العريضة.

إن الجبهة الوطنية العريضة ليست جمعا ميكانيكيا لمجموع القوى السياسية الجنوبية التي يفترض أن تنخرط فيها، بل هي تحالف سياسي عريض ونوعي يتسع لجميع الشركاء لكنه يتميز بخاصيتين رئيسيتين هما:ـ

 الأول: الائتلاف على ما هو مشترك بين المتحالفين، وهو هنا إعلان الدولة الجنوبية المستقلة كاملة السيادة،

والثاني: الاحتفاظ بالتمايز والاختلاف البناء والخلاق، من خلال حق أي من الشركاء في هذا التحالف في التعبير عن نفسه سياسيا وبرامجيا وفكريا وإعلاميا بما لا يتصادم مع المشروع الكبير وهو ما أسميناه القاسم المشترك الأعظم.

أما المسميات والمصطلحات السياسية وتزمين المهمات اللاحقة وإعادة ترتيب الأولويات بعد استعادة الدولة فهذه قضايا يمكن حسمها في إطار الحوار السياسي وإرجاعها في الأخير إلى الشعب الجنوبي ليحسم فيها بالوسائل الديمقراطية المعروفة وأهمها الانتخاب والاستفتاء.

إن اختطاط هذا الطريق يستدعي وعيا جديدا خلاقا، وفكرا جديدا مبدعا، وممارسة سياسية جديدة مبتكرة تقوم على مجموعة  من المتطلبات أهمها: تنمية ثقافة الحوار والتسامح والتعايش والقبول بالآخر المختلف؛ التمييز بين المهمات العاجلة للمرحلة الراهنة وبين لون وشكل النظام السياسي كمهمة لاحقة ينبغي أن يحددها الخيار الشعبي بالوسائل المدنية والديمقراطية الحضارية؛ التمييز بين ما هو رئيسي ومفصلي ومصيري بالنسبة لكل الشعب الجنوبي وبين ما هو ثانوي قابل للنقاش والتنازل المتبادل؛ ثم ابتكار الحلول الوسطية التي يقبل بها الجميع والتي لا تلغي أحد لكنها تعلي من المشتركات الوطنية الكبرى.

وأخيرا أن تحقيق تطلعات الشعب الجنوبي لا يمكن أن يأتي وفقا لشروط طرف سياسي واحد وحيد دون النظر في ما لدى الآخرين من برامج ورؤى وتصورات وأفكار، كما لا يمكن لطرف سياسي أن يتصدى بمفرده للتحديات الكبيرة التي تنتصب أمام الجنوب والجنوبيين، فلقد أثبتت التجربة التاريخية أنه كلما اتسعت دائرة المشاركين في صنع الحدث السياسي كلما كان قابلا للحياة والصمود والاستمرار وكلما ضاقت دائرة الشركاء اتسعت دائرة الخصوم وقلل هذا من فرص نجاح المشروع السياسي أيا كان شكله ومبتغاه والداعون إليه.

والله من وراء القصد

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

2) الجزء الثاني من مداخلة قدمت إلأى ندوة الجالية الجنوبية بمناسبة الذكرى 52 لثورة 14 أكتوبر.  

 

قراءة 2143 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة