الجذور التاريخية لحصار الهيمنة المركزية

الخميس, 09 شباط/فبراير 2017 17:24 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

         إن حصار السبعين يوما كان من المنظور الجغرافي حصارا لصنعاء، أما من المنظور السياسي والاجتماعي والثقافي فقد كان حصارا لكل اليمن، ولتعز على وجه الخصوص.وسنحاول في هذه الورقة أن نبين أن تعز التي تحاصر اليوم في تعز هي نفسها تعز التي حوصرت بالأمس في صنعاء.وليس في هذا الحكم أي تحيز مناطقي وإنما هي إرادة المكان الذي جعل من هذه المحافظة وسطا جامعا وهيأها لأدوار وطنية تتجاوز حدودها الإدارية إلى كل اليمن، ونقصد بذلك:

1 – دورها في الصراع بين الجمهوريين والملكيين والانتصار للجمهورية.

2 – دورها في العلاقة بين الشمال والجنوب والإبقاء على وحدة اليمن.

3 – دورها في التنمية وتحديث اقتصاد البلاد وترسيخ ثقافة العمل وضخ الكوادر وأهل المهن والحرف إلى كل اليمن.

4 – دورها الثقافي والتمديني.

5 – دورها في ترسيخ ثقافة الولاء للدولة.

6 – دورها في العمل التعاوني وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.

         والأهم من هذا كله أن تعز التي يستميت الانقلابيون من أجل جرجرتها إلى صراعهم المناطقي والمذهبي هي التي تكسر هذا البعد المتخلف للصراع رغم ما أصابها من موت ودمار وجروح، ورغم بقع الدم والقيح والصديد التي تملأ أحياءها وقراها. وهي بهذا السلوك مثل الفارس الذي يغشى الوغى ويعفُّ عند المغنم، ويسري على أهلها قول النبي (ص) للأنصار: " تكثرون عند الفزع وتقلِّون عند الطمع".  

          وللكشف عن الجذور التاريخية للهيمنة المركزية – حصار اليوم والأمس - يلزم التمييز تحت مسمى اليمن بين اليمن الحضاري الثقافي، واليمن السياسي.

اليمن الحضاري الثقافي:

         اليمن الحضاري الثقافي هو نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم المعروفة باليمن.وقد بدأ هذا التفاعل في لحظة ما من التاريخ واستمر حقبا زمنية طويلة ونتج عنه بروز جماعة بشرية اسمها الشعب اليمني.ولهذا الشعب هوية جامعة متعددة الأبعاد برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية لليمنيين.ومن غير الجائز اختزال هذه الهوية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي.واليمن الحضاري الثقافي يندرج في إطار اللامختار لأن اليمنيين ليسوا أحرارا في قبوله أو عدم قبوله.إنه قدرهم الذي لا فكاك منه.وبهذا المعنى يكون اليمن الحضاري الثقافي واحدا غير قابل للتجزئة ولا يعترف بأي حدود سياسية داخل الجغرافيا اليمنية وليس بمقدور الأفراد ولا الجماعات ولا حتى الدول أن ترسم له حدودا نهائية من هذا القبيل.وإذا وجدت مثل هذه الحدود سيقاومها من كل الجهات عاجلا أم آجلا .

اليمن السياسي:

         اليمن السياسي هو التعبير السياسي المجسد في دولة.وعلى هذا الأساس يكون اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل وتعبيراته السياسية هي الفرع .والأصل كان واحدا دائما بينما تراوحت تعبيراته السياسية بين الوحدة والتجزئة في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث.

         إن مراوحة اليمن السياسي بين الوحدة والتجزئة كانت دائما نتاجا لصراع العصبيات على السلطة والثروة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن حينها قادرة على إسناد التاريخ بقدر كاف من الفاعلية التي تحول دون تعدد التعبيرات السياسية.فعندما يكون مستوى التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا يكون هناك في الغالب الأعم تعبير سياسي واحد عن الكيان الحضاري الثقافي الواحد.وأقرب مثال على ذلك مصر التي حُكمتْ دائما بدولة مركزية واحدة وأدى التساند القوي بين تاريخها وجغرافيتها إلى نشوء شعب متجانس نسبيا يعيش في منطقة مستوية على امتداد النيل.وبسبب هذا التجانس غدا من الصعب الحديث في مصر المعاصرة عن هيمنة ذات طابع عصبوي.

         أما في اليمن لم يكن التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا على النحو الذي كانته مصر.ولهذا تعددت في كثير من الأحيان التعبيرات السياسية داخل الكيان الحضاري الثقافي الواحد.ففي الأزمنة القديمة نشأت الدولة اليمنية عن اتحاد تجمعات قبلية عصبوية.وعندما اختلف أصحاب النفوذ فيها تفككت الدولة وتعددت التعبيرات السياسية المتصارعة داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وبسبب هذا الصراع غاب الأمن والاستقرار وتراجع الاقتصاد واضمحلت الحضارة.

         وعندما انتصر الإسلام في جزيرة العرب لم يكن اليمنيون مستقرين في ظل تعبير سياسي واحد مجسد في دولة واحدة.وعندما أسلموا كان قاسمهم المشترك الأعظم هو اليمن الحضاري الثقافي الواحد وليس اليمن السياسي المتشظي.فهم أهل اليمن رغم تعدد مسمياتهم وعصبياتهم القبلية من كندة إلى مذحج  إلى همدان وغيرها. 

         وفي زمن الخلافة الراشدة كان اليمن عبارة عن مخاليف على رأس كل منها "عامل" معين من قبل أمير المؤمنين في المدينة المنورة.وقد استمر الحال على ما هو عليه تقريبا زمن الأمويين.وفي زمن العباسيين شكلت جغرافية اليمن الصعبة عامل إغراء للطامحين في الخروج على مركز الخلافة في بغداد.وحينها عاش اليمن عصره الوسيط المعروف بعصر الدويلات التي حكمت متعاقبة أحيانا ومتزامنة متصارعة أحيانا أخرى.وفي هذا العصر ظهرت تعبيرات سياسية جديرة بمسمى الدولة سواء من حيث الامتداد الجغرافي والزمني أو من حيث الانجازات المتحققة على الأرض.وإلى هذه التعبيرات تنتمي دولة الرسوليين ودولة الصليحيين والدولة الزيدية في بعض فتراتها والدولة الطاهرية، مع بعض التفاوت في مساحة النفوذ والسيطرة والامتداد الزمني.

         غير أن أهم ملمح ميز العصر الوسيط هو الصراع بين الدويلات.وهنا يجب أن نلاحظ أن القوة وليست الجغرافيا هي التي كانت ترسم حدود هذه الدويلات وأن الوحدة والانفصال لم تكن من بين الشعارات التي حركت صراعاتها وحروبها.لهذا السبب كانت حدود اليمن السياسي المتعدد متغيرة ومتنقلة داخل فضاء اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وكان الشعب اليمني الواحد موزعا كسكان- وليس كشعوب - على الدويلات التي رسمت القوة حدودها.لكن هذه الحدود لم تكن صارمة أو مغلقة أمام حركة السكان وهجراتهم الداخلية وتعايشاتهم المشتركة ولم تكن تهدد انتماءهم العفوي إلى اليمن الحضاري الثقافي.وكان السكان في ظل كل دويلة ينظرون إليها بعيون اليمن السياسي المنقسم وليس بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد ويحاكمونها من خلال مقولتي العدل والظلم وليس من خلال مقولتي الوحدة والإنفصال. بينما نتعامل نحن اليمنيين المعاصرين مع دول تاريخنا القديم والوسيط كماض لا علاقة له بالصراع على السلطة والثروة في حاضرنا.وهذا يجعلنا- من حيث ندري أو لا ندري- نقف على مسافة واحدة منها ناظرين إليها بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد وحاكمين عليها من خلال مقولتي الوحدة والتجزئة.فهي دول عظيمة تستحق أن نفرد لها مساحات كبيرة في كتب المطالعة المدرسية إذا قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي بما هو تفاعل كامل الجغرافيا مع كامل التاريخ. وهي مجرد دويلات إذا لم تسعفها قوتها على التمدد.أما إذا ذهبنا نفاضل بين دول ماضينا الوسيط التي قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي منطلقين من مقولات العدل والظلم والانجاز فسوف يكون من الصعب علينا أن نتفق على رأي واحد خاصة إذا كان لتحيزاتها المذهبية حضور في حياتنا الراهنة. وهذا يعني أن اليمن السياسي هو قطب التعدد الذي قد يؤدي إلى الفرقة بينما اليمن الحضاري الثقافي هو قطب الواحدية الذي لا ينفي التعدد.

         واليمن السياسي لا يؤدي إلى الفرقة والتفكك إلا عندما يتمدد داخل الفضاء الحضاري الثقافي الواحد بالقوة الغاشمة ويفرض نفسه ككيان عصبوي متغلب ومهيمن على ما في هذا الفضاء من تعدد.وهذا ما يفسر تفكك وتشرذم الدول اليمنية في التاريخ القديم والوسيط حيث كان التعدد المهمش يتكئ على ضعف التساند بين الجغرافيا والتاريخ ويعمل على تفكيك واحدية الدولة أو تلاشيها لتأتي على أنقاضها دويلات أو دولة أخرى قوية كانت هي أحد عوامل ضعف واضمحلال الأولى.

         وهذه قاعدة شذت عنها الدولة الزيدية التي كانت تتوسع على حساب غيرها وعندما يظهر منافس قوي تنكمش ويتراجع حاملها الاجتماعي السياسي إلى جبال شمال الشمال حيث يجد موطئ قدم دائم يتربص داخله وعندما تأتي فرصة مواتية ينقض ويتمدد.لهذا تعددت نسخ الدولة الزيدية بتعدد الأسر الهاشمية التي حكمت اليمن. وقد تراوحت بين الضمور والظهور حتى 1962. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نقرأ حركة الحوثي المسلحة وتحالفها مع المخلوع علي صالح وانقلاب الطرفين على التوافق الوطني وعلى التسوية السياسية ومخرجات الحوار الوطني الشامل.

          آخر تعبير سياسي استطاع أن يتمدد داخل كامل جغرافية اليمن هو الدولة الزيدية في عهد المتوكل على الله إسماعيل ولكن لمدة 42 عاما فقط (1644- 1686).وبعدها تفكك اليمن إلى مشيخات وإمارات وسلطنات في الجنوب وإمامات متصارعة في شمال الشمال بينما مالت مناطق الوسط إلى الاستقرار النسبي في ظل الأعراف التي مكنت الوجهاء المحليين من ممارسة السلطة الاجتماعية في مناطقهم ولم يشذ عن ذلك سوى البيضاء التي أسس فيها آل الرصاص إمارة لهم كان ظهورها أول خروج على دولة المتوكل في عهد خلفه قبل أن تخرج عليه أي من مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب.

         وقد استمر اليمن متشظيا على هذا النحو لأكثر من قرن ونصف قبل أن تحتل بريطانيا عدن عام 1839.وعلى إثرها عادت الخلافة العثمانية إلى اليمن في العام 1849 ولكن فقط إلى شمال البلاد هذه المرة إبتداء من المناطق الساحلية والسهلية. وهنا يجب أن نلاحظ أن العثمانيين استخدموا القوة لفرض حكم مركزي على كامل الشمال لم تخرج عليه إلا المناطق الزيدية بموجب صلح دعان الذي منح الإمام يحي سلطة دينية كانت نوعا من الحكم الذاتي لمناطق شمال الشمال. لكن قادة الجيش العثماني لم يتركوا الشمال بعد الحرب العالمية الأولى إلا وقد ساعدوه على البقاء موحدا تحت سلطة الإمام يحي.

          أبقى الإمام يحي على التقسيم الإداري الذي وضعه العثمانيون لكنه لم يمنح المناطق الشافعية ولو حدا أدنى من الإدارة الذاتية التي كان قد قاتل العثمانيين من أجلها. والأنكأ من كل ذلك أنه أذلها بحروب "الفتوحات" التي لم يكن لها ما يبررها سوى تحويل هذه المناطق إلى مناطق خراجية أسلمت بحد السيف بعد أن اصبح سكانها كفار تأويل حسب فتاوى تلك الحروب. وهي امتداد لفتاوى المتوكل على الله إسماعيل الذي قال إن الله لن يحاسبه على ما أخذه من أموال الشوافع وإنما على ما أبقى لهم.

         قسم الإمام يحي سكان مملكته إلى عدنانيين حاكمين وقحطانيين محكومين. وصنف العدنانيين إلى درجات حسب حظ أسرهم من السلطة والنفوذ في الماضي ومن الثروة والوجاهة في الحاضر. لذلك وجدت القاعدة الكبيرة من العدنانيين نفسها تقف ضد بيت حميد إلى جانب ثورة سبتمبر 1962. أما القحطانيون فقد جرى تصنيفهم إلى زيود محاربين وشوافع مزارعين. وللمحاربين تراتبية هرمية تبدأ بالشيخ ثم القاضي وبعده يأتي الفقيه وتنتهي بالقبيلي. وتحت هؤلاء فئة واسعة من المهمشين الذين يعيشون على خدمتهم. وقد مثلت ثورة سبتمبر 1962 انقلابا على هذا الركود القروسطي وأحدثت حراكا مجتمعيا كبيرا.غير أن عوامل داخلية وخارجية كثيرة تظافرت وكبحت المسار التصاعدي للثورة وحالت بينها وبين تحقيق كامل أهدافها وانتهى الأمر بنظام سياسي عصبوي دخل طرفا في معادلة الوحدة اليمنية سلميا عام 1990 وانقلب عليها عسكريا عام 1994 في حرب لا تختلف في أهدافها وشعاراتها وفتاواها عن "فتوحات" الإمام يحي في المناطق الشافعية لمملكته. والفارق الجوهري الوحيد أن هذه المناطق لم تكن مشروعا سياسيا له تاريخ وله دولة وتطلعات مستقبلية بحجم اليمن كما هو الحال بالنسبة للجنوب. لذلك استسلمت للواقع المفروض عليها كمناطق خراجية بينما تمخض الجنوب عن حراك اجتماعي سياسي واسع رافض لمبدأ الحرب وشعاراتها وفتاواها ونتائجها.

         خلافا للعثمانيين في الشمال فضلت بريطانيا في الجنوب أن تتجنب المزيد من أعمال المقاومة واكتفت بعدن وأقامت اتفاقيات حماية مع مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب الذي لم يصبح دولة واحدة إلا في 30 نوفمبر 1967 أي بعد نحو 286 عاما من تفكك دولة المتوكل على الله إسماعيل. وعلى هذا الأساس اصبحت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية هما آخر تعبيرين سياسيين يتزامنان داخل اليمن الحضاري الثقافي. مع ملاحظة أن الجغرافيا وليست القوة هي التي رسمت الحدود بينهما لأول مرة في تاريخ اليمن. وهذا فعل سياسي غير يمني وإنما عثماني بريطاني كرسه النظام الدولي المعاصر القائم على مبدأ سيادة الدول وأضفى عليه طابعا قانونيا أصبحت معه الوحدة اليمنية مستحيلة بواسطة القوة وإنما على أساس طوعي وبالإرادة الحرة لكل من الدولتين وعلى قاعدة الندية والشراكة بينهما. وإذا كانت دولة الشمال قد عاشت منذ ما بعد أغسطس 1968 على كبح قيام يمن سياسي واحد داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد – باستثناء فترة الرئيس الحمدي - فإن دولة الجنوب هي التي تحملت أعباء الإخلاص لوحدة هذا اليمن وهي التي أوصلت اليمنيين إلى 22 مايو 1990. والوصول إلى هذا اليوم سبقته انجازات ملحمية لا يعي معظم اليمنيين في الشمال حجمها ونوعها وأثرها الإيجابي الكبير على حاضر ومستقبل اليمن. ولو أن هذه الحقيقة كانت مستقرة ومستوعبة في عقولهم وضمائرهم لما كان بمقدور مراكز القوى العصبوية أن تزيف وعيهم بالشعارات الوطنية والدينية وأن تجر البلاد إلى حرب 1994 تحت شعار الدفاع عن الوحدة. وسيسجل التاريخ أن تلك الحرب كانت في مقاصدها وفي نتائجها خيانة عظمى لليمن الحضاري الثقافي وللانجازات الملحمية التي اجترحها شعب الجنوب والحركة الوطنية اليمنية عموما للوصول إلى 22 مايو 1990. وتتمثل هذه الملاحم فيما يلي:

1 – استدعاء الهوية اليمنية للجنوب من ارشيف التاريخ وتخليصها من غبار أزمنة التشظي.

2 - إسقاط مشروع إتحاد الجنوب العربي وتوحيد الجنوب وتثبيت هويته اليمنية.  

3 - بناء دولة الاستقلال على استراتيجية الوحدة اليمنية والنظرة الدونية للتشطير.

         وبسبب إخلاصه لليمن الحضاري الثقافي قوبل النظام السياسي في الجنوب بالكراهية والعداء المبكر حتى قبل أن يعلن عن توجهه الأيديوجي ذي البعد الاشتراكي. فعندما استقل الجنوب في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك رفضت العصبيات القبلية الاعتراف بدولة الاستقلال بذريعة أنه ليس من حق الجبهة القومية أن تعلن دولة مستقلة في الجنوب وعلى قحطان الشعبي أن يأتي إلى تعز أو الحديدة ويسلم مفاتيح الجنوب لشيوخ القبائل. وهذا هو المنطق نفسه الذي واجه به الإمام يحي مساعي عبد العزيز الثعالبي حين حاول أن يقنعه بمقترحات سلطان لحج من أجل الوحدة. أما اعتراف دولة الشمال بدولة الاستقلال في الجنوب فقد حسمه رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني لاعتقاده حينها أن صنعاء مرشحة للسقوط في أيدي الملكيين وأن الجنوب سيكون قاعدة الانطلاق لمواصلة الحرب ضدهم ولا يجوز إستعداءه. وكان الإرياني يعلم علم اليقين أن اعتراض شيوخ القبائل على وجود دولة مستقلة في الجنوب ليس بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن حركة القوميين العرب المكروهة سعوديا هي التي أعلنت هذه الدولة وليس المستوزرون وسلاطين المحميات. ولو أن الاستقلال حصل تحت راية الجنوب العربي الذي تأسست فكرته على استبعاد الهوية اليمنية للجنوب لكان الاعتراف به جاهزا من غير قيد أو شرط. والسبب أن زعماء العصبيات القبلية يفضلون جنوبا متنصلا من يمنيته على جنوب يمني يتطلع إلى وحدة تليق به كمشروع سياسي وطني يهدد بالنتيجة ما يعتبرونه "حقهم التاريخي" في الحكم والهيمنة على كامل الشمال. فالوحدة ليست عملية جمع بسيطة وإنما حدث تاريخي إستثنائي له تفاعلاته التي ستعمل بالضرورة على إعادة توزيع القوة والنفوذ والثروة وستخلق توازنات جديدة بين مناطق البلاد ومكونات المجتمع. والنتيجة المنطقية والحتمية لهذه التفاعلات هي سقوط "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم. وهذا أمر يدركه زعماء العصبيات القبلية تمام الإدراك ومنذ وقت مبكر. لذلك وجدوا أنفسهم إزاء الجنوب أمام ثلاثة خيارات نبسطها كما يلي:

1 - رفض مبدأ الوحدة اليمنية صراحة: واعتبارها اختراعا شيطانيا وعملا من أعمال العدوان ضد الجمهورية العربية اليمنية وأمنها واستقرارها. وهذا خيار خاسر لأن الحركة الوطنية اليمنية كانت قد أفلحت منذ وقت مبكر في استدعاء الوحدة من ارشيف التاريخ وأيقظتها في نفوس الجماهير وحولتها إلى حالة عاطفية شعبوية جارفة في الشمال والجنوب. وأي سياسة تصادم هذه الحالة العاطفية محكوم عليها بالسقوط سلفا. لذلك لم يكن أمام زعماء العصبيات سوى تملق هذه العاطفة والمزايدة على الجنوب بشعار الوحدة.

2 - التخلي عن "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم لصالح اليمن ووحدته وأمنه واستقراره: وهذا ما لم يتم، ولن يتم طواعية، بدليل انقلاب 21 سبتمبر 2014.

 3 - القضاء على الجنوب كمشروع سياسي وطني يهدد "حقها التاريخي" المزعوم في الحكم: وذلك من خلال تمزيقه لصالح الماضي السلاطيني أو احتلاله بالقوة العسكرية وضمه إلى نظام الشمال. وهذا هو الخيار الذي استقرت عليه وحكم كل تفاصيل علاقاتها بالجنوب.وهذا ما سنبينه من خلال العرض التالي لتاريخ الثورة في الشمال:          

       فرضت ثورة 26 سبتمبر 1962م على اليمن الشمالي حاضرا جمهوريا غير مستقر بسبب الانقسام المجتمعي الكبير حول مشروعية الثورة ضد نظام الإمامة. وقد كان هذا الانقسام في أساس الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين. وفي تلك الظروف كانت تلك الحرب في بعض جوانبها حربا اقليمية بالوكالة بسبب الفرز الحاصل داخل مكونات النظام الإقليمي العربي إلى أنظمة قومية راديكالية مناهضة للاستعمار وأخرى قطرية محافظة تدين في نشأتها وبقائها لهذا الاستعمار.

         وبينما كان الملكيون يشكلون كتلة يمينية واحدة كان الجمهوريون منقسمين إلى يسار ويمين. وكانت القواسم المشتركة بين الملكيين واليمين الجمهوري أكثر من تلك التي بين هذا الأخير واليسار الجمهوري. لذلك كانت هناك معركة مؤجلة بين اليمين واليسار في المعسكر الجمهوري. والذي أجلها هو الوجود المصري في اليمن من ناحية والدعم المالي والعسكري السعودي للملكيين من ناحية أخرى. ومن أجل التسريع بهذه المعركة وضع اليمين الجمهوري خطة مبكرة جعل مفاتيح نجاحها بيد مملكة آل سعود وفتح معها قنوات اتصال مباشرة خارج الأقنية الرسمية وبنى منطقه الاقناعي على النحو التالي:

1 – الوجود المصري في اليمن يهدد أمن المملكة وهو أيضا يهدد مستقبلنا السياسي في وراثة بيت حميد الدين. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في خروج القوات المصرية من اليمن.

2 – كلما طال أمد الوجود المصري في اليمن كلما تضاعفت قوة اليسار الجمهوري وفي صدارته حركة القوميين العرب ذات الروابط الفكرية والسياسية والتنظيمية مع الجبهة القومية في الجنوب. ومن شأن هذا أن يرجح ميزان القوى في صنعاء لصالح اليسار ويمكنه من الاستحواذ على السلطة بشكل نهائي بعد رحيل المصريين. وهذا ليس في صالح المملكة التي ستجد نفسها مهددة بيمن موحد يحكمه القوميون ومحالف لمصر عبد الناصر. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في التخلص من القوميين وحسم مسألة السلطة في صنعاء لصالحنا.

3 – الجيش المصري لن يغادر اليمن إلا إذا انتهت الحرب الأهلية التي تهدد النظام الجمهوري. والحرب لن تنتهي إلا إذا أوقفت المملكة الدعم المالي والعسكري للملكيين وسعت إلى مصالحة وطنية بيننا وبينهم. والمصالحة إذا تمت سترجح ميزان القوى لصالحنا في حسم معركة الاستحواذ على السلطة.

4 – اليسار يرفض فكرة المصالحة مع الملكيين بحجة الخوف على النظام الجمهوري. ونحن نسقط هذه الحجة عندما نشترط أن تكون المصالحة مع الملكيين تحت مظلة الجمهورية والتخلي عن بيت حميد الدين.

5 – رهان المملكة على عودة بيت حميد الدين والإمامة إلى اليمن هو رهان على جواد خاسر. ومن مصلحة المملكة أن تشيد جسور التعاون معنا لتضمن جارا جنوبيا محالفا لها حريصا على أمنها واستقرارها. ثم أنه لن يكون بمقدورنا أن نسير دفة الأمور في البلاد بدون عون المملكة الذي يجب أن يغنينا عن الحاجة إلى غيرها من الأنظمة غير مأمونة الجانب.  

         بهذه الطريقة بدت مملكة آل سعود كمن كان يبحث عن سمكة صغيره فساق الله إليه حوتا كبيرا من حيث لا يحتسب. وبالمقابل اصبح لليمين الجمهوري حليفا اقليميا يعتمد عليه. ثم جاءت هزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو حزيران 1967 لصالح هذا التحالف حيث شرع الجيش المصري في الإنسحاب من اليمن. وفي 5 نوفمبر 1967 نفذ اليمين الجمهوري انقلابا ضد الرئيس عبدالله السلال وشكل مجلسا جمهوريا برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني. لكن رغم هذا الانقلاب ظل اليسار الجمهوري صاحب الحضور الأقوى في وحدات الجيش والمقاومة الشعبية. لذلك كان لابد من حصار صنعاء.

         حاصر الملكيون صنعاء من كل الجهات. وخلال سبعين يوما من الصمود والمقاومة سقط الحصار. لكن هل كان هدف الحصار أن تعود بيت حميد الدين لحكم اليمن؟ هذا هو الاعتقاد السائد إلى اليوم في كل ما كتب وما يكتب عن ملحمة السبعين يوما. أما نحن فلنا رأي مغاير. في اعتقادنا أن حصار صنعاء كان من أجل استنزاف وإنهاك صاعقة عبد الرقيب عبد الوهاب ومظلات حمود ناجي سعيد ومدفعية علي مثنى جبران ومشاة محمد صالح فرحان، واليسار الجمهوري عموما الذي تحمل العبء الأكبر في الدفاع عن العاصمة وفك حصارها. وكان أيضا من أجل اختبار أهلية اليمين الجمهوري وجاهزيته لمنازلة اليسار. وليس من قبيل المصادفة حصول بعض المواجهات المسلحة بينهما أثناء الحصار، وهي مواجهات غير مبررة بين طرفين يفترض أنهما يخوضان معركة واحدة ضد عدو مشترك مدعوم إقليميا.

         انتهى حصار صنعاء في فبراير 1968. وفي أغسطس من العام نفسه شهدت صنعاء أحداثا دامية إنتهت بهزيمة اليسار وتسريحه من الجيش وتشريده. وجراء هذه الأحداث أصبح الجنوب الرسمي من غير شريك وحدوي في صنعاء. وأصبح التعلق بالوحدة في صنعاء قرينة على شبهة الانتماء إلى اليسار الذي أعاد تنظيم نفسه فيما بعد في إطار الجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من عدن. ومقابل هزيمة اليسار في أغسطس 1968 حصل اليمين الجمهوري على جائزة المصالحة التدريجية مع الملكيين الذين أصبحوا منذ العام 1970 حاضرين في المجلس الجمهوري ومجلس الشورى والحكومة والسلطة المحلية والقضاء والسلك الدبلوماسي.

         معروف أنه عندما حصل الجنوب على الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية حقيقية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك كان الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب محل معارضة شديدة من قبل بعض رموز اليمين الجمهوري الذي أنكر على الجبهة القومية هذا الحق. غير أن القاضي الإرياني كان صاحب رأي مغاير رجح أفضلية الاعتراف. وما هو جدير بالإشارة هنا أن اعتراض رموز اليمين الجمهوري على الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب لم يكن بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن سلطة الدولة المستقلة آلت إلى الجبهة القومية غير المرغوبة سعوديا لا إلى السلاطين والمستوزرين أصحاب اتحاد الجنوب العربي. وموقف اليمين الجمهوري المناوئ للجبهة القومية يعود إلى فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني. فاليمين كان يعارض دعمها بالسلاح الأمر الذي جعل هذا الدعم يأخذ طابعا سريا وتحديدا بعد اختلاف الجبهة القومية مع قيادة الجيش المصري في اليمن. والحديث بإطلاق عن الدعم الذي قدمته ثورة 26 سبتمبر لثورة 14 أكتوبر يتستر على هذه الحقيقة. والرموز التي وقفت ضد الدعم بالسلاح واعترضت على الاعتراف هي نفسها التي أشعلت حرب سبتمبر 1972 بين شطري البلاد رغم معارضة القاضي الإرياني للحرب. وإذا كانت تلك الحرب قد آلت إلى توقيع اتفاقية الوحدة بالقاهرة في أكتوبر 1972 فإن محسن العيني دفع بسرعة ثمن التوقيع على تلك الاتفاقية مع علي ناصر محمد، وفيما بعد دفع القاضي الإرياني ثمن الدفاع عنها.

         لقد فقد النظام السياسي في الشمال أهليته الكاملة للوحدة مع الجنوب منذ أحداث أغسطس 1968. فعقب تلك الأحداث أصبحت النخبة السياسية الحاكمة في الجنوب بدون شركاء وحدويين في الشمال الرسمي. ومع إبراهيم الحمدي بدأ الشمال الرسمي يعيد تأهيل نفسه وحدويا على كل المستويات، وفي عهده تلقى تلاميذ المدارس في الشمال والجنوب دروسا موحدة في التاريخ والتربية الوطنية. لكن الحمدي دفع ثمن هذا التوجه وذبح بطريقة باتت معروفة لمعظم اليمنيين. أما أحمد حسين الغشمي فقد كان رئيسا عابرا ريثما يعاد ترتيب أوراق النظام على النحو الذي لا يسمح بتكرار ظاهرة الحمدي. وعندما جاء علي عبد الله صالح إلى السلطة في يوليو 1978 حرص منذ أيامه الأولى في الحكم أن يثبت لمن جاء به أنه لم ولن يكون ابراهيم حمدي آخر. وبما أن الوحدة تحققت في عهد الرئيس صالح فسوف نتناول هذا العهد بقدر أكبر من التفصيل.

         جاء علي صالح إلى السلطة من فراغ سياسي شبه مطلق. فقبل 17 يوليو 1978 لم يكن هذا الرجل يتمتع بأية شعبية- لا داخل النظام ولا خارجه- تجعل منه صاحب حضور حتى من الدرجة العاشرة. وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما مضت لم يستطع الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي أن يقدم تفسيرا مقنعا للطريق الذي سلكه هذ الرجل من أجل الوصول إلى السلطة. غير أن ملابسات هذا الحدث خرجت بالتدريج إلى دائرة الضوء وتبين أنه وصل إلى رئاسة البلاد بإرادة سعودية قوية لها نفوذ كبير في اليمن الشمالي الذي كان حينها يعيش حالة انكشاف أمني وعسكري وسياسي تام على الرياض (مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر). وقد اتكأ علي صالح على هذه الإرادة في فرض نفسه على مراكز القوى والتأثير، التي لم تكن هي الأخرى متحررة من النفوذ السعودي، أو على الأقل يستحيل عليها أن تضمن استقرار النظام وربما بقاءه، من غير دعم الرياض. ولهذا تعاملت مع رئاسة علي عبد الله صالح كأمر واقع وتركت للزمن أن يحدد نوع علاقاتها المستقبلية معه.

        ومن جانبه لم يكن علي صالح حينها يحوز على الخبرة والمعرفة التي تؤهله لإدارة شئون الدولة. كما لم يكن صاحب مشروع يبرر وصوله إلى السلطة ويؤسس عليه شرعية انجاز تضفي المقبولية الشعبية على نظامه. فالسلطة بالنسبة له كانت طموحا شخصيا، وغاية مطلوبة لذلتها. وكان تفكيره منذ البداية منصبا على تأمين بقائه من غير تهديد. وهاتان نقطتا ضعف مفصليتان حتمتا عليه منذ بداية عهده بالحكم أن يسترضي مراكز القوى وأهل النفوذ والتأثير ومجموعات الحكم عموما، فأرسى العلاقة بينه وبين هؤلاء على مبدأ توافقي مضمر قائم على اعتبار الدولة "غنيمة مشتركة لمراكز القوى في النظام".

        والجدير بالملاحظة هنا أن مجيئ علي صالح المفاجئ إلى السلطة لم يكن انقلابا على النظام السياسي وإنما كان للمحافظة عليه بأركانه وشخوصه وتوجهاته السياسية والأيديولوجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. فهو جاء ليكون شريكا لآخرين مؤتمنا من الدولة الراعية لا كبديل لغيره. ولهذا لم يأت بطاقم خاص به وإنما اعتمد في إدارة البلاد على الطبقة السياسية نفسها التي سبقته في الحضور السياسي والجماهيري وتحقيق المكانة. فهو طارئ عليها وبحاجة إلى خبراتها وإلى شعبيتها، ولم يكن واردا من الناحية الموضوعية حينها أن يدخل مع أي من مراكز القوى في خلافات لا يستطيع أن يبررها في ضوء توجهات النظام وثوابته. ومن بديهيات الأشياء أن يقدم نفسه لها كشريك حقيقي. وقد عبر عن شراكته مع الجميع من خلال القبول بما يريدون- في إطار التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا- ليقبل الجميع ايضا بما يريد الرئيس في إطار التوجه نفسه. وعلى قاعدة هذا التفاهم اصبحت الدولة غنيمة لأطراف وشركاء النظام السياسي، وجميعهم معني بدوامها والحفاظ عليها كمصلحة مشتركة أسست لتحالف وثيق فيما بينهم. وأصبح علي صالح قطب الرحى في هذا التحالف وقاسمه المشترك. فهو يقبل القسمة على الجميع والجميع لا يقبل القسمة إلا عليه. وقد تشكل هذا التحالف من خمس دوائر هي: دائرة كبار قادة الجيش، ودائرة كبار شيوخ القبائل، ودائرة كبار رجال الدين، ودائرة كبار السياسيين وممثلي البيروقراطية في الجهاز المدني للدولة، ثم دائرة بعض كبار رجال المال والأعمال، وبخاصة أولئك الذين راكموا ثروات بطرق غير مشروعة.

         وبينما كان الكل داخل النظام يفعل ما يريد في حدود الدور الموكل إليه إنصرف علي صالح لبناء المتاريس الاستخباراتية والأمنية والعسكرية، لتحصين مؤسسة الرئاسة وتعزيز دورها في إطار النظام السياسي. وقد بنى تلك المتاريس ابتداء على قاعدة الشراكة بين نخب النظام العسكرية والقبلية. ولم يكن الرئيس حينها سوى رمز هذه الشراكة وراعيها المؤتمن المقبول من أركان النظام في الداخل ومن الدولة الراعية في الإقليم.

        وقد ترتب على هذا النوع من الشراكة المغلقة على أطراف النظام، ولأول مرة، أن أصبح للفساد دولة في اليمن، وتحول نافذوها إلى فاسدين يتمتعون بسلطات مادية ومعنوية واسعة لا رقيب عليها، تهمش، وتقصي، وتقمع، كل من لا يرضى عنها، أو يعارضها بأي شكل من الأشكال. وكانت المزاوجة والخلط بين السلطة والثروة من أبرز مظاهر دولة الفساد حيث ميزت طبقات الحكم نفسها بنمط حياة إستهلاكي ترفي يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية. وفي سياق المواجهة الأيديولوجية بين صنعاء وعدن جرى تسويق هذا النمط وتبريره على أنه من سمات وأفضليات النظام الرأسمالي في مواجهة النظام الإشتراكي. وبذلك تم تحصين الفساد، أيديولوجيا وسياسيا، ضد أي نقد، من داخل أو من خارج النظام، فتحول إلى ثقافة جرى تعميمها على مختلف مستويات الجهاز الإداري للدولة، فشاعت فيه ظاهرة المحسوبية والرشوة والمداخيل غير المشروعة التي دمرت منظومة قيم المجتمع. وأصبح المحذور الوحيد الذي يخشاه الموظف الرسمي ويرتعد منه هو الافصاح عن أي رأي سياسي مغاير قد يضعه تحت مجهر شبكة الأجهزة الأمنية التي أحكمت قبضتها على الخدمة المدنية والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتحكمت بمصائر الناس، وأشاعت ثقافة الخوف والرعب داخل أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وفي المجتمع.

        وبسبب ثقافة الخوف هذه تأسست شروط موضوعية للنفاق السياسي، فتكاثر المنافقون الذين وجدوا في تملق رئيس الدولة والتغني ب"مواهبه" و"مناقبه" أقصر الطرق وأسهلها للاندماج في النظام وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية كل حسب حجم ونوع الخدمة التي يقدمها للرئيس ونظامه. وكانت التنمية هي الخاسر الأكبر جراء النهج الذي سار عليه علي صالح في إدارة البلاد. فمعظم الموارد ذهبت لصالح تحصين النظام ورفاه نخبه وإثرائها على حساب التوسع الكمي والنوعي في البنى التحتية اللازمة لإحداث تنمية حقيقية وشاملة.

        وعندما أطل عام 1990 كان نظام علي صالح قد انتج شبكة مصالح واسعة وتحالفات متداخلة جعلت النظام السياسي في الشمال غير مؤهل، لا لوحدة إندماجية، ولا لوحدة فيدرالية، ولا لأي مستوى من مستويات الديمقراطية. وقد شكلت تلك المصالح والتحالفات بسياجاتها الأمنية والعسكرية والسياسية والأيديولوجية والإدارية والقبلية حقل ألغام حقيقي تفجر بسرعة في طريق وحدة 22 مايو 1990 السلمية وديمقراطيتها وقاد البلاد إلى حرب صيف 1994. وبسبب تلك الحرب ونتائجها نشأت القضية الجنوبية كأحد مكونات المشهد السياسي المعقد في اليمن اليوم.

        هذه إذن فترة حكم علي صالح زمن الجمهورية العربية اليمنية. الزمن الذي تأسس على تحالف خمس دوائر كل منها كان  جزءا من بنية النظام السياسي لدولة الشمال. وكانت سلطة هذا التحالف مستحوذة على كل هياكل وفضاءات الدولة ابتداء من الجيش والأمن والقضاء والسلك الدبلوماسي، مرورا بالخدمة المدنية والجهاز الإداري، وانتهاء بالإعلام والتعليم المدرسي والجامعي وحتى دور العبادة. مايعني أن الدولة الوطنية المفترضة ممثلة بالجمهورية العربية اليمنية كانت نظاما سياسيا لأطراف هذا التحالف، ولم تكن دولة لكل أبناء الشمال. ولأن علي صالح كان شديد الاخلاص لنظام الجمهورية العربية اليمنية بتحالفاته المذكورة فقد اعتبرنا الفترة الممتدة من يوليو 1978 وحتى مايو 1990 فترة شهر العسل بالنسبة لأطراف هذا التحالف وأطلقنا عليها إسم "الصيغة الأفقية" لنظام علي صالح في مقابل "الصيغة العمودية" التي بدأت بعد حرب 1994. ومن أجل اكتمال صورة هذا النظام سنتحدث أيضا عن صيغته الثانية التي بدونها لا نستطيع أن نفسر أسباب تصدعه أثناء ثورة فبراير 2011.

        في 22 مايو 1990 توحدت دولة الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) ودولة الجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) سلميا في إطار الجمهورية اليمنية. وكانت الديمقراطية لصيقة بالوحدة ومرادفة لها. فالديمقراطية لم تكن ممكنة بدون الوحدة. والوحدة لا تستطيع أن تصمد في حال التخلي عن الديمقراطية. وأية تشوهات تصيب الديمقراطية، تلقي بظلالها الكثيفة على الوحدة. ومع الوحدة اصبح علي صالح رئيسا لمجلس رئاسة الدولة الجديدة. وكشريك في توحيد شطري اليمن إكتسب علي صالح شعبية كبيرة في أوساط الجماهير. وعلى المستوى الرسمي لم يكن هناك ما يهدد بقاءه في السلطة، فقد كان مقبولا من قبل شركائه القدامى في دولة الشمال، ومن الشريك الجديد القادم من عدن، وكان هذا يؤهله لأن يكون شخصية جامعة توفق بين كل الأطراف وتعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الوحدة والديمقراطية. لكن الرجل لم يقرأ اللحظة التاريخية التي شكلتها الوحدة على هذا النحو. فقد رأى في الديمقراطية خطرا عليه وتعامل معها تعاملا تكتيكيا، وأخذ منها فقط ما يعزز مركزه ويقوي تحالفاته القديمة في إطار الصيغة الأفقية، للاجهاز على شريك الوحدة القادم من عدن. ولم يكن في هذه اللحظة قد ادرك أن الديمقراطية ستحرره من الحاجة إلى التحالفات القديمة وستعفيه من منة أطرافها عليه.

        وبعد انتخابات أبريل النيابية عام 1993 بدا له أن الديمقراطية كانت عليه أكثر مما كانت له. فالحزب الإشتراكي الذي قاسمه مجد الوحدة اصبح يقاسمه مجد الديمقراطية وسيقاسمه مجد التنمية والنهوض باليمن في ظل استقرار مفترض بفضل الوحدة والديمقراطية. وهذا يعني أن هذا الحزب سيتمكن من تصحيح الصورة الذهنية التي ألصقها خصومه به في سنوات الصراع بين شطري البلاد وسيستأنف حياة جديدة في ظل الوحدة والديمقراطية (مذكرات الشيخ عبد الله). وبدا لعلي صالح أن كل ذلك سيكون على حسابه وخصما من رصيده الشخصي. لذلك بنى سياسته تجاه الحزب الإشتراكي منذ الأيام الأولى للوحدة على استدعاء الموروث التاريخي للصراع بين الشطرين، وذهب يغذي الحساسيات الأيديولوجية القديمة ويخلط الأوراق، ويحدث الوقيعة بين كل الأطراف. وترتب على كل ذلك أزمة سياسية لم تخل من أعمال عنف طالت العشرات من كوادر الحزب الإشتراكي.وبعد انتخابات أبريل 1993 النيابية دفع علي صالح البلاد بسرعة قياسية نحو حرب صيف 1994 التي خاضها تحت شعار الدفاع عن الوحدة.

        ولأن العبرة في السياسة هي في النتائج وليس في المقدمات، فقد تبين فيما بعد أن اهداف علي صالح من وراء حرب 1994 كانت شخصية، وأن الانتصار العسكري الذي تحقق تحول إلى هزيمة سياسية لكل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب. فالتشطير انتقل من الجغرافيا إلى النفوس.بينما أصيبت الديمقراطية الجنينية بالشلل التام، واصبح التداول السلمي للسلطة مجرد شعار لا أساس له في الواقع.

        بعد حرب 1994 انفتح أمام علي صالح فضاء ديمغرافي جديد في الجنوب أكسبه مصادر قوة جديدة أتاحت له الاستقلالية عن حلفائه التقليديين في إطار الصيغة الأفقية للزمن الأول والتحول إلى صيغة عمودية خالصة له ولعائلته ومسنودة بتحالفات بديلة من ابتكاره تدين له بالولاء مقابل ادماجها في النظام وما يحققه لها ذلك من امتيازات مادية ومعنوية. وشيئا فشيئا بدأ يحس أنه بتحالفاته الجديدة يستطيع أن يضعف أو يهمش أو يقصي أو يتخلص من شركاء الأمس الذين ناصروه منذ بداية عهده. وبالتوازي مع هذا النهج الجديد تجاه شركاء الأمس بدأ يكشف عن تطلعاته الشخصية لتوريث الحكم عبر الديمقراطية التي اختزلها في صندوق الاقتراع بعد أن إعتقله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

        وبواسطة صندوق الاقتراع المعتقل حقق علي صالح أغلبية برلمانية مريحة عام 1997، وأعاد انتاجها عام 2003. وأصبح الصندوق شعارا يحاكي شعار "الوحدة أو الموت". وبواسطة هذين الشعارين قدم علي صالح نفسه على أنه صاحب الريادة في الوحدة والديمقراطية، وكأنهما منة منه على الشعب اليمني. وبعد أن نجح في اختزال الديمقراطية في الصندوق، ذهب يرسخ قناعة لدى الرأي العام بأن هذا الصندوق هو الحكم في تقرير من يحكم اليمن، وأن نجله أحمد مواطن يمني ومن حقه أن يصبح رئيسا لليمن إذا اختاره الشعب عبر الصندوق. مع أن علي صالح يدرك أكثر من غيره أن صندوق الإقتراع ليس إلا قميص عثمان الذي من خلاله يكتسب الشرعية الشكلية ثم يكسبها لمن يشاء من الأقارب والأعوان والأزلام الذين يحققون له مشروعه الشخصي.

        لقد انقلب علي صالح أولا على الحزب الإشتراكي وأخرجه بواسطة الحرب من الشراكة في دولة الوحدة وحوله إلى حزب محظور من الناحية العملية. ثم استثمر نتائج الحرب للانقلاب على شركاء الصيغة الأفقية لصالح صيغة عمودية معدلة، ومارس انقلابه هذا بشكل تدريجي كعملية قامت على التصفية الجسدية لبعض رموز التحالف القديم على ذمة حوادث مؤسفة، وعلى تشويه صورة البعض الآخر داخليا وخارجيا وتحميله وحده كل أوزار نظامه السياسي ليتقمص هو دور الحاكم الذي كان فيما مضى مغلوبا على أمره. وقد أدرك حزب التجمع اليمني للإصلاح أبعاد هذا الإنقلاب مبكرا وانسحب من الشراكة في السلطة على نحو هادئ وعقلاني وأصبح أكبر حزب معارض في إطار تحالف اللقاء المشترك. ومن باب الإنصاف كان انسحاب هذا الحزب من السلطة مساحة ضوء في ليل حالك الظلام.

         لقد انقلب علي صالح إذن على أطراف التحالف القديم – أي على شركائه في الجمهورية العربية اليمنية- لا من أجل مشروع وطني كبير، وإنما من أجل مشروع عائلي صغير.إنقلب على الصيغة الأفقية، لا لصالح صيغة أفقية أوسع، وإنما لصالح صيغة عمودية لا تتسع إلا له ولعائلته.

         وعندما شرع علي صالح في إقامة هياكل دولته العائلية كان من الناحية العملية يؤسس- ويعلم أنه يؤسس- لشروط أزمة عميقة في البلاد. فأطراف التحالف القديم لن تقبل أبدا بدولة عائلية وستقاوم هذا المشروع. وتحسبا لأي مقاومة أو ممانعة أخذ صالح ينفق موارد البلاد لرفع جاهزيته السياسية والعسكرية. وشيئا فشيئا تضاعفت ثقته بالقدرة على هزيمة خصوم دولة العائلة في مربع السياسة أو في مربعات الحرب إذا احتاجت السياسة إلى مساندة البنادق والمدافع. وكان بحاجة فقط إلى انتخابات برلمانية يجريها بشروطه لتجديد شرعية أغلبيته المريحة التي ستقلع عداد الرئاسة ليفعل هو بعد ذلك ما يريد.

        كانت احزاب المعارضة في إطار اللقاء المشترك مدركة لمضامين هذا المخطط. ومن أجل المشاركة في الإنتخابات اشترطت أولا إصلاح النظام السياسي وإصلاح المنظومة الانتخابية عبر حوار وطني يشمل كل الأطراف الفاعلة- بما في ذلك الحراك الجنوبي ومعارضة الخارج والحوثيين- ويناقش كل القضايا وعلى رأسها القضية الجنوبية وقضية صعدة. وبعد أن فشل صالح في اختزال أطراف الحوار بالأحزاب الممثلة في مجلس النواب وقع مع احزاب المشترك على اتفاق فبراير 2009 الذي مدد للبرلمان سنتين اضافيتين تتاح خلالهما الفرصة لإجراء الحوار الوطني الشامل والتوافق على الإصلاحات المطلوبة.

        أمضى علي صالح هاتين السنتين في المناورات القاتلة للوقت. وفي النهاية رمى باتفاق فبراير عرض الحائط وذهب يحضر للانتخابات البرلمانية بشروطه ليفرض على أحزاب المشترك سياسة الأمر الواقع بحجة أن الانتخابات استحقاق دستوري للشعب اليمني ويجب أن تجري في موعدها وأنه لن يضيع الوقت في حوار الطرشان كما قال، وأشاع في كل مكان أن أحزاب المشترك ضعيفة وتخشى الاحتكام إلى الشعب أمام صناديق الإقترع.

        قررت أحزاب المشترك أن تقاطع الانتخابات وذهبت إلى جماهيرها في كل مكان تشرح الأسباب وتكشف عن مخطط التمديد والتأبيد والتوريث الذي يريد علي صالح أن يمرره على الشعب اليمني بواسطة إنتخابات انفرادية ينافس فيها حزبه حزبه. وأوضحت أن علي صالح لا يريد إنتخابات نزيهة وشفافة ومتكافئة تحل مشاكل البلاد، وكل ما يريده هو إنتخابات تمنحه شرعية شكلية لتمرير مشروع التوريث.

        أعلن علي صالح أن مقاطعة الانتخابات انتحار سياسي محتوم لأحزاب المشترك وتحديدا للتجمع اليمني للإصلاح باعتباره الحزب الأقوى في الائتلاف المعارض. وكان هذا تهديدا مبطنا بأن الإخوان المسلمين سيلقون المصير نفسه الذي لقيه الإشتراكيون والناصريون من قبل. وفي هذا التهديد كان علي صالح يعول على المسافة الطويلة التي قطعها قطار دولته العائلية عسكريا وأمنيا معتقدا أن الإخوان المسلمين هم العقبة الأخيرة التي يجب الاجهاز عليها كي يتمكن القطار من مواصلة السير فوق قضبان آمنة. أما ما تبقى من الهياكل العسكرية للصيغة الأفقية فليس أمامها إلا أن ترفع الراية البيضاء أو أن تسحق تحت طائلة الانشقاق والتمرد على الشرعية.

        هكذا خطط علي صالح. غير أن متغير ثورة فبراير فاجأه من حيث لا يحتسب وأربك كل حساباته الأمنية والعسكرية فألفى نفسه أمام شعب أعزل قرر أن يطرد صانع الأزمات سلميا وأن يسقط نظامه من غير عنف. وهذه لعبة جديدة لم يتوقعها، وبقواعد جديدة لم تكن واردة في حساباته المتكيفة على اللعب في مربعات الحرب.وخلال أشهر الثورة استخدم علي صالح كل ما تبقى لديه من أوراق وأولها ورقة العنف، وورقة العقاب الجماعي للشعب اليمني من خلال افتعال أزمة الوقود والكهرباء، لكنه لم يستطع أن يتجنب السقوط السياسي الذي بدأ بتجريده من كل صلاحياته ونقلها إلى نائبه وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

        والنجاح الذي استطاع علي صالح أن يحققه تمثل في اختزال ثورة فبراير إلى أزمة سياسية بين الصيغتين الأفقية والعمودية، وهذا واضح من خلال التسوية التي اقترحتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي وقع عليها بعد أن الفى نفسه محاصرا بإرادة اقليمية ودولية تلح على توقيعه ومغادرته للحياة السياسية باعتباره أصل المشكلة وسبب رئيس في عدم الإستقرار.

         اعتقد علي صالح أن توقيعه على المبادرة الخليجية خطوة إلى الخلف مقابل خطوات إلى الأمام تعيده إلى السلطة، ومن أجل ذلك ذهب يستدعي أحلام وحروب الدولة الزيدية منذ حروب الإمام الهادي لقبائل يام وإحراق نخيلها وردم آبارها، وحتى حرب بيت حميد الدين ضد ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري وحصارها لصنعاء، دون أن يدرك أنه يلعب في زمن متغير وأن عبد الرقيب عبد الوهاب أصبح ظاهرة جماعية في كل اليمن، وأن صاعقته غدت ظاهرة شعبية في كل البلاد.ومما يؤسف له أن المركزية التي أسستها حروب الهيمنة والإخضاع على مدى قرون رفضت أن تغادر حياتنا السياسية على قاعدة الحوار السياسي والتوافق الوطني وأبت إلا أن تغرق البلاد بالدم.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

@aleshterakiNet

 

قراءة 2605 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة