افكار في القضية الجنوبية

الخميس, 16 حزيران/يونيو 2016 23:26 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

إذا سألني شخص ما: ما هو المشروع الوطني لليمن في اللحظة الراهنة؟ سأشير إلى ثلاثة أشياء:

1 – إنهاء الحرب بشروط الانتصار للوطن، وليس بشروط أي من أطرافها.

2 – المحافظة على الوحدة اليمنية، من خلال الحل العادل للقضية الجنوبية.

3 – بناء دولة مدنية تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها.

ويفهم من هذا أن القضية الجنوبية قضية مفصلية في المشروع الوطني اليمني، ومن هنا يستمد الحديث عنها أهميته وحيويته الوطنية./ هذا أولا.

ثانيا / لا توجد قضية تعرضت لركام هائل من التزييف، المقصود وغير المقصود،في الشمال وفي الجنوب، مثل القضية الجنوبية.ففي الجنوب يتحدثون عن جنوب عربي واقع تحت الاحتلال اليمني.وفي الشمال يتحدثون عن الجنوب كما لو كان جزءا من الشمال،ولهذا يخلطون بين مفهوم "فك الارتباط" ومفهوم "الانفصال". ومن هنا يستمد الحديث عن القضية الجنوبية أهميته المعرفية.

وعلى هذا الأساس سأبدأ حديثي عن القضية الجنوبية من مراجعة وتصحيح بعض المفاهيم والصيغ التي استقرت في عقولنا لتقوم بدور الحاجب الذي يمنعنا من رؤية هذه القضية وفهمها كما هي.

1 - من أبرز هذه الصيغ القول بأن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو " إعادة تحقيق للوحدة اليمنية"..فما هي على وجه التحديد هذه الوحدة التي أعدنا تحقيقها؟..لا أحد يستطيع أن يقدم إجابة محددة ومقنعة..والصحيح أن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو " تأسيس جديد لوحدة بين شطرين تفصل بينهما قرون من التشظي".وهذا التأسيس لا يستقيم إلا إذا كان الشمال والجنوب متكافئين في بناء دولة الوحدة، بصرف النظر عن الفارق الكبير في عدد السكان.

2 - ومن الأخطاء الشائعة أن حديثنا عن الوحدة اليمنية هو حديث عموم، لا يفرق بين الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة التي توافقنا عليها في 22 مايو 1990، والوحدة اليمنية كما تجلت في بعض فترات التاريخ القديم والوسيط..والتفريق هنا على قدر كبير من الأهمية لا يجوز معه محاججة دعاة "فك الارتباط" بأسانيد من التاريخ..لماذا؟

لأن اليمن تاريخيا أكبر من حاصل جمع الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..والتحجج بالتاريخ يضعنا تلقائيا في مربع الإيمان ببعض اليمن والكفر ببعضه الآخر..ومعنى ذلك إن التحجج بالتاريخ ليس له أي مصداقية وطنية ما لم يتضمن المطالبة بمحاكمة من فرطوا بجيزان وعسير ونجران واعتبروها مجرد "حفنة تراب"..ونحن هنا لا نرفع راية استعادة هذه الأراضي وإنما نصحح خطأ شائعا..وخلاصة ما نريد أن نقوله: الوحدة اليمنية التي نتحدث عنها هي الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة..ومن غير الجائز اعتبارها امتدادا طبيعيا لأي وحدة حصلت في التاريخ.

3 - من المهم جدا، ونحن نتحدث عن الوحدة اليمنية، أن نميز بين اليمن الحضاري الثقافي واليمن السياسي..فاليمن الحضاري الثقافي هو حاصل تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم التي نسميها اليمن..وقد نتج عن هذا التفاعل قيام جماعة بشرية إسمها الشعب اليمني..ولمكونات هذا الشعب قواسم مشتركة كثيرة لا تنفي خصوصية كل مكوِّن..أما اليمن السياسي فهو الدول التي نشأت داخل الفضاء الجغرافي لليمن طوال مراحل التاريخ.

وإذا كان اليمن الحضاري الثقافي واحدا دائما فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لليمن السياسي الذي عرف الوحدة وعرف الإنقسام.. والمرجح أن أزمنة الانقسام أكثر من أزمنة الوحدة..والأمر الجوهري في اليمن السياسي المنقسم أن القوة، وليس الجغرافيا، هي التي كانت تعيِّن حدود الدول داخل الفضاء الجغرافي اليمني..فالدولة التي تمتلك القدرة على الحشد والتعبئة تستطيع أن توسع حدودها داخل هذه الجغرافيا على حساب غيرها، وتستطيع أيضا أن تشغل كل هذه الجغرافيا، وأحيانا تتجاوزها إلى ما ورائها.

يضاف إلى ذلك أن "الوحدة" و"الإنفصال" لم يكونا من بين الشعارات التي حركت حروب الدول التي تزامنت داخل جغرافيا اليمن..فتاريخ اليمن لم يعرف دولا وحدوية ودولا إنفصالية، وإنما عرف دولا قوية ودولا ضعيفة..واليمنيون الذين عاشوا في ظل الدول المتزامنة كانوا في ظلها رعايا وسكانا، وليس شعوبا..فبرغم الانقسام السياسي كان اليمن الحضاري الثقافي يمارس قدرا كبيرا من الفاعلية في الحفاظ على القواسم المشتركة وتكريسها وتعميمها.. وكان اليمنيون الذين عاشوا في ظل تلك الدول يحاكمونها من خلال مقولتي العدل والظلم، وليس من خلال مقولتي الوحدة والإنفصال اللتين لم يكن لهما وجود قبل نشوء الدولة الوطنية بالمفهوم المعاصر.

وآخر تجليات اليمن السياسي المنقسم هو الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..ومن غير الدخول في التفاصيل قامت الثانية على أنقاض فسيفساء من السلطنات والمشيخات والإمارات السابقة على استعمار بريطانيا لعدن بزمن طويل، بالإضافة إلى مستعمرة عدن..والقول بأن بريطانيا فصلت الجنوب عن الشمال ليس له سند من التاريخ..ولتزامن الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية داخل جغرافيا اليمن خصوصية نوجزها في النقاط التالية:

1 – الجغرافيا، وليست القوة، هي التي عينت حدود هاتين الدولتين لأول مرة في التاريخ بفعل النظام الدولي المعاصر الذي أرسى مفهوم سيادة الدول على أراضيها داخل حدودها الوطنية.

2 – كل منهما عضو ذو سيادة في المجتمع الدولي.

3 – حدودهما محمية بقوة النظام الدولي، والمساس بها عدوان على هذا النظام.

4 – بينهما اعتراف متبادل كعضوين في المجتمع الدولي.

5 – الشعب مكوِّن جوهري في التعريف الأكاديمي للدولة..وإذا سلمنا بوجود دولتين فمعنى ذلك أننا سلمنا تلقائيا بوجود شعبين..وهما شعب واحد من منظور اليمن الحضاري الثقافي، غير أنهما شعبان من منظور اليمن السياسي.

6 – الوحدة بينهما لم تعد ممكنة بواسطة القوة، وإنما على أساس طوعي توافقي.

وتعبر هذه الخصوصية عن حقيقة جغرافية تاريخية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن الحضاري الثقافي وليس جزءا الشمال، وأنه جغرافيا سياسية لها تاريخها الخاص في إطار التاريخ اليمني العام..وهذه حقيقة منحت الجنوب كيانية خاصة به يستحيل تجريده منها..والشعور بهذه الكيانية هو الذي يحرك المقاومة التي أبداها ويبديها الجنوب في مواجهة نتائج حرب 1994 بعدما تبين له أن الهدف من تلك الحرب لم يكن الدفاع عن الوحدة اليمنية التي يتساوى أمامها الجنوب مع الشمال، وإنما تحويل الجنوب من شريك في الوحدة بإرادته إلى ملحق بدولة الشمال بغير إرادته..وعنوان هذه المقاومة الأكبر هو "القضية الجنوبية".

4 - إن شعار "فك الارتباط" لا يعبر عن رفض الوحدة، وإنما عن رفض الضم والإلحاق باسم الوحدة..وهو بهذا المعنى شعار سياسي لا يجوز اعتبار الظلم الواقع على المحافظات الشمالية أساسا صالحا لمحاكمتة..فأي من المحافظات الشمالية لم ولن ترفع هذا الشعار مهما وقع عليها من ظلم..وهذا ليس بسبب الفائض الوحدوي عندها، وإنما لأنها جغرافيا إدارية ضمن الجغرافيا السياسية للشمال، وليس الجنوب كذلك.

5 – القضية الجنوبية أساسها أزمة في دولة الوحدة، وليس أزمة في الوحدة..وأي دفاع عن الوحدة في مواجهة القضية الجنوبية هو عمليا دفاع عن نتائج حرب 1994 التي كرست أزمة الدولة..ثم أن أي حوار حول الوحدة لا يستقيم إلا إذا كان بين شمال وجنوب..أما الحوار حول الدولة فهو حوار بين اليمنيين مصنفين على أساس سياسي، وهذا ما تم فعلا في مؤتمر الحوار الوطني الذي أعطى الجنوب نصف قوام المؤتمر، ولكن على أساس سياسي وليس على أساس جهوي.

6 – لفهم القضية الجنوبية فهما جيدا يلزم التمييز بين الوحدة كحالة عاطفية مستقرة في الوجدان الشعبي، والوحدة كمشروع سياسي نخبوي توافقي يجب أن يتجسد في دولة واحدة موحدة..والوحدة بالمعنى الأول موجودة قبل 22 مايو 1990..أما الوحدة بالمعنى الثاني فهي تلك التي تم الإعلان عنها في 22 مايو 1990.

7 - في صيف 1994 استخدمت الوحدة كحالة عاطفية شعبوية للإنقلاب على الوحدة كمشروع سياسي نخبوي توافقي.وساعد على ذلك الفارق الكبير في عدد السكان..وقد أدى هذا الإنقلاب إلى تدمير الوحدة كحالة عاطفية في الجنوب على الأقل باعتباره الطرف الذي أخرجته حرب 1994 من الشراكة الوطنية في معادلة الوحدة..فالحرب كانت انقلابا على التوافق الوحدوي وليس دفاعا عن الوحدة..ومدافعها لم تطلق في 27 أبريل 1994 للقضاء على انفصال تم إعلانه، وإنما لفرض وحدة غير توافقية يستحيل على الجنوب أن يقبل بها.

8 – إن الذين وقفوا صراحة ضد دستور دولة الوحدة بعد الإعلان عنها عام 1990 لم يقفوا ضد الوحدة كحالة عاطفية شعبوية، وإنما وقفوا ضدها كمشروع سياسي توافقي عبر عن نفسه من خلال الدستور الذي أطاحت به حرب 1994 وجاءت بدستور آخر صاغه المنتصرون في الحرب.

9 - المنتصرون في حرب 1994 رفضوا وحدة 22 مايو 1990 كمشروع سياسي توافقي، وعبروا عن رفضهم عسكريا بواسطة الحرب..والحراك الجنوبي يرفض وحدة 7 يوليو 1994 القائمة على الضم والإلحاق ويعبر عن رفضه سلميا بواسطة النضال المدني.

10 – الذين يرفعون أعلام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رفضا للضم والإلحاق هم من المنظور الأخلاقي أشرف بما لا يقاس من أولئك الذين اندفعوا من جبال الشمال إلى سهول الجنوب ليفرضوا عليه الضم والإلحاق بواسطة الدبابات وراجمات الصواريخ.

11 – منذ 22 مايو 1990 عرف اليمنيون أربع صيغ للوحدة اليمنية هي: صيغة 22 مايو 1990، وصيغة وثيقة العهد والاتفاق..وهاتان الصيغتان أطاحت بهما حرب 1994 لتفرض صيغة ثالثة هي صيغة الضم والإلحاق " المعمد بالدم"..وقد قيل عن الصيغة الثالثة إنها راسخة رسوخ الجبال..غير أن الحراك الجنوبي أثبت أنها أوهى من بيت العنكبوت..أما الصيغة الرابعة فهي تلك التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني..وهذه الصيغة الأخيرة قامت على شرعية التوافق الوطني..وشرعية التوافق الوطني قابلة للتحول إلى شرعية شعبية إذا أمكن نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد في ظروف طبيعية.

12 - إذا لم تتجسد الصيغة الأخيرة للوحدة في دولة لكل اليمنيين في الجنوب وفي الشمال فلن يكون مقبولا أبدا إلقاء اللائمة على الحراك والقضية الجنوبية، وإنما على أولئك الذين يزرعون الألغام في الطريق إلى هذه الدولة ويعيقون تنفيذ مخرجات الحوار الوطني بوضع مشاريعهم الخاصة فوق المشروع الوطني العام وفي مواجهته..وهؤلاء على وجه التحديد هم الإنفصاليون الحقيقيون.

13 – إن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة، وليس بين جهتين في الجغرافيا..والرئيس هادي كان وزير دفاع الاتجاه السياسي الذي انتصر في تلك الحرب..وعلى هذا الأساس من غير الجائز التحجج بجنوبيته وجنوبية معظم حكومته للهروب من استحققات الحل العادل للقضية الجنوبية.

14 – الوحدة مشترك إنساني يقوم على كثير من القواسم المشتركة التي تكونت من خلال التعايشات التلقائية بين أفراد وجماعات الشعب الواحد عبر تاريخه الطويل الموغل في القدم..إنها إذن ظاهرة وجدانية عاطفية تنشأ عفويا في تركيبة المجتمع في سياق تفاعل أفراده وجماعاته مع بعضهم البعض، وتفاعلهم مجتمعين مع بيئتهم ومع التحديات الحقيقية والمتوهمة التي تهدد وجودهم في هذه البيئة..وفي سياق هذا التفاعل تتولد المصالح المتبادلة ويستأنس الأفراد والجماعات بعضهم ببعض..ومع الزمن يفضي هذا الاستئناس إلى وجود قواسم مشتركة ثقافية ومعرفية وأيديولوجية ونفسية تمجد هذه التعايشات وترسخها وتعمل على استمرارها عبر الأجيال..وفي مرحلة متأخرة من هذه الصيرورة يأتي دور النخب التي تصوغ المفاهيم وتضع الاصطلاح الاجتماعي لكثير من التعايشات..وعن هذا العمل النخبوي ينتج الشعار الذي يحول الوحدة من حالة استئناس إلى راية سياسية..وفي مرحلة متأخرة يأتي المتغلب ويسرق الشعار والراية ويوظف نتائج هذه العملية التاريخية الطويلة والمعقدة لصالح مشروعه الخاص..وهذا ما فعله علي عبد الله صالح عندما خطف شعارات الوحدة من أصحابها ووجه عامة الناس ضد مصالحهم ولصالح مشروعه الخاص ملحقا أضرارا فادحة بقضية الوحدة كحالة عاطفية وكمشروع سياسي وطني.

15 - شعار " الوحدة فريضة إسلامية" هو الآخر من أعمال الاختطاف المقنع بالدين، لأن الإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي وإنما قيمة مضافة إليه..ونحن عندما توحدنا عام 1990 لم نتوحد لأننا مسلمون، وإنما لأننا يمنيون..لم نتوحد لأننا جماعة دينية وإنما لأننا جماعة وطنية بصرف النظر عن نوع معتقدنا الديني..ثم كيف يستقيم الأمر عندما نرفع شعار " الوحدة فريضة إسلامية" وفي الوقت نفسه نكفِّر ونقصي بواسطة الحرب أولئك الذين ظلوا لعقود يتعبدون بالوحدة حتى أوصلونا إلى 22 مايو 1990!!!........................

16 - إن شعار "الوحدة فريضة إسلامية" من أخطر الشعارات التي رفعت في مواجهة القضية الجنوبية كقضية "سياسية" لاختزالها في البعد الحقوقي كما يفهمه أصحاب هذا الشعار..وهو أيضا شعار إقصائي إستبعادي يقوم على إزاحة الحامل الاجتماعي السياسي لقضية الوحدة ليُحِلَ أصحاب الشعار محلَّه..والوحدة مطروحة على رأس جدول أعمال الحركة الوطنية اليمنية قبل ظهور أصحاب هذا الشعار بزمن طويل..والأخطر من ذلك أنه شعار تضليلي يختزل مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن..وفي كل الأحوال يتستر هذا الشعار على أزمة دولة الوحدة من خلال تديين مفهوم الوحدة..وهو بهذا المعنى من شعارات الأزمة، لا من شعارات الحل.

17 – لم يصل اليمنيون إلى 22 مايو 1990 إلا عبر ثلاث ملاحم متلازمة جميعها دارت في الجنوب، وليس في الشمال..وهذا يعني أن الجنوب هو صانع الوحدة اليمنية بمفهومها المعاصر إنطلاقا من مدينة عدن التي لولاها لما توحد الجنوب عام 1967 ولما أعلنت وحدة 22 مايو 1990..فعدن هي حاضرة الوحدة اليمنية بدون منازع..فما هي هذه الثلاث الملاحم؟

الملحمة الأولى: إستدعاء الهوية اليمنية من إرشيف التاريخ:

فمع استطالة أزمنة التشظي دخل اليمن الحضاري الثقافي في سبات عميق وأصبح اليمنيون في الجنوب يعرِّفون أنفسهم من خلال إنتماءاتهم إلى فسيفساء الكيانات التي ملأت فضاءه الجغرافي..ولهذا لم يعد اليمني هناك يمنيا، وإنما فضلي أو عبدلي أو واحدي أو حوشبي أو قعيطي أو كثيري أو مهري...الخ..وحتى نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت الصحافة العدنية تتحدث عن "شعوب الجنوب العربي " وليس عن شعب الجنوب العربي..وكلمة "اليمن" كانت في الاستخدام العام تشير إلى مملكة الشمال، وليس إلى الجنوب..وهذا ما نقصده بسبات اليمن الحضاري الثقافي..وفي مدينة عدن بدأت عملية إيقاظ اليمن الحضاري الثقافي من سباته باستدعاء الهوية اليمنية الجامعة من أرشيف التاريخ وتنظيفها من غبار أزمنة التشظي..وهذه عملية بدأت في وقت مبكر بالتزامن مع المد القومي العروبي بعد نكبة فلسطين..وبدون هذه الملحمة ما كان بالإمكان الانتقال إلى الملحمة الثانية.

والحركة الوطنية اليمنية هي التي أنجزت الملحمة الأولى في مناخ صراعي مع القوى التقليدية الممانعة ليمنية الجنوب..وكانت الحركة الوطنية اليمنية قد تشكلت من حركة القوميين العرب والبعث والماركسيين فضلا عن النقابات والاتحادات التي ازدهرت في مدينة عدن..والحزب الاشتراكي اليمني هو المصب الذي التقت داخله هذه الروافد بفروعها الجنوبية والشمالية..وهو بهذا المعنى حزب الوحدة اليمنية باعتبارها قضيته الوطنية الكبرى..ومنذ البداية تأسس هذا الحزب على شرعية وطنية، وليس على شرعية سياسية فقط..وليس مصادفة أن تأخذ حرب 1994 ضد الوحدة التوافقية شكل الحرب ضد الحزب الاشتراكي، حتى أن معظم اليمنيين صدَّق أن المستهدف هو الحزب دون الوحدة..وعلى هؤلاء أن يلاحظوا أن مدافع حرب 1994 لم تصب الحزب فقط وإنما أصابت قضيته، لتعذر الفصل بينه وبينها، من الناحية العملية على الأقل.

غير أن الحركة الوطنية اليمنية عندما استدعت الهوية اليمنية من أرشيف التاريخ استدعتها بطريقة مثالية حماسية قامت على تنقية التاريخ، ذهنيا، من حروبه وانقساماته وتغلباته لإسناد تعايشات اليمنيين الوئامية في مدينة عدن، وكأنها امتداد تصاعدي لتعايشات وئامية جرت في الماضي..وهنا تكمن جذور النزعة المثالية في التعامل مع الوحدة اليمنية كما لو كانت أيديولوجيا خلاصية جاءت إلينا جاهزة من الماضي السحيق..وعلينا اليوم أن نعترف أن هذه النزعة المثالية في التعامل مع قضية الوحدة هي التي جعلت الجنوب يذهب إلى الوحدة مع الشمال ذهابا حماسيا غير آمن وغير مدروس بدقة ليقع ضحية لحرب 1994..وبما أن الحزب الاشتراكي اليمني هو الذي هيأ الجنوب للوحدة وحببها إليه وقاده إليها فإن البعض في الحراك الجنوبي يتطرف في تحميله مسئولية ما حدث للجنوب متناسيا أن حرب 1994 كانت ضد الحزب وليس ضد الجنوب..فالجنوب لم يتعرض لما تعرض له لأنه الجنوب، وإنما لأن أمراء الحرب هم شياطين الشمال،ومن غير المعقول أن يتصرفوا كملائكة في الجنوب.

الملحمة الثانية: إسقاط مشروع اتحاد الجنوب العربي بواسطة الكفاح المسلح.

عندما استيقظ اليمن الحضاري الثقافي الواحد مارس فاعليته في التصدي لليمن السياسي المتشظي ابتداء من الجنوب..فالمعروف أن بريطانيا كانت قد حددت موعدا لانسحابها من عدن، ولكن بعد أن أعادت صياغة الخارطة السياسية للجنوب على أساس أربع دول مستقلة هي: اتحاد الجنوب العربي الذي ضم المحميات الغربية ومستعمرة عدن؛ السلطنة القعيطية؛ السلطنة الكثيرية وسلطنة المهرة وسقطرى..ولو قدر لهذا المخطط أن يتحقق لكان في صنعاء اليوم أربع سفارات جنوبية لدول ذات سيادة محمية بقوة القانون الدولي ليس بينها من ينسب نفسه إلى اليمن.

ومن أجل إسقاط هذا المشروع اضطرت الجبهة القومية إلى نهج الكفاح المسلح..وهنا يلزم التأكيد – والكلام موجه لدعاة الجنوب العربي - أن قطاع الفدائيين في عدن هو الوحيد الذي ضم شماليين وجنوبيين، وما عدا ذلك تشكلت تنظيمات الجبهة القومية في كل سلطنة ومشيخة وإمارة من أبنائها، وسقطت بأيادي أبنائها..وكان هؤلاء الأبناء يعلمون علم اليقين أنهم أعضاء في تنظيم سياسي إسمه الجبهة "القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" – وليس لتحرير الجنوب العربي المحتل -. وكانوا أيضا يعلمون أن الجبهة القومية تعمل من أجل تحرير الجنوب وتوحيده على طريق توحيد اليمن كله..وهذا ما تم فعلا من خلال الملحمة الثالثة.

الملحمة الثالثة: بناء دولة الاستقلال على استراتيجية الوحدة مع الشمال والنظرة الدونية للتشطير.

وجميعنا يعلم أن الجنوب كان طوال سنوات الاستقلال وحتى 22 مايو 1990 ورشة تشتغل بشكل يومي على قضية الوحدة في كل قطاعات الدولة والمجتمع..وهذا مما لا يستطيع أحد أن ينكره أو يزاود عليه.

هذه الملاحم الثلاث هي التي أوصلت اليمنيين إلى 22 مايو 1990..وهي التي صنعت الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة التي لا يجوز اعتبارها امتدادا طبيعيا لأي وحدة حصلت في التاريخ القديم أو الوسيط..والآن تعالوا نتأمل الوحدة بصيغتها المعاصرة.

وحدة 22 مايو 1990:

نقلا عن الشهيد جار الله عمر إتفق البيض وصالح في 30 نوفمبر 1989 على ما يلي:

1 – أن دولة الوحدة ستكون مصحوبة بالديمقراطية والتعددية السياسية.

2 – ضمانات للطرفين.

3 – أن الدولة الجديدة لن تكون بصيغة دولة الشمال ولا بصيغة دولة الجنوب.

4 – الأخذ بإيجابيات النظامين.

وما قاله جار الله صحيح 100%، لكن ليس بين أيدينا وثيقة واحدة تقول لنا ما هي الإيجابيات التي أقر بها نظام الشمال لنظام الجنوب، وتلك التي أقر بها نظام الجنوب لنظام الشمال..كما لا توجد وثيقة مفصِّلة للضمانات التي تحول دون أي إلتفاف على اتفاق الوحدة..وهذا كله يعبر عن وجود ثغرات كبيرة في اتفاق الوحدة نفذ منها الطرف الشمالي إلى حرب 1994..والحقيقة، كل الحقيقة، أنه لولا هذه الثغرات ما كان هذا الطرف ليقبل بالذهاب إلى الوحدة من حيث المبدأ، وما كان له أن يقترح تقديم موعد إعلان الوحدة من 30 نوفمبر 1990 إلى 22 مايو 1990..فالتقديم بالنسبة لهذا الطرف كان يعني أشياء كثيرة أقلها خطرا ترحيل الاستفتاء على مشروع الدستور إلى ما بعد إعلان الوحدة..والحقيقة أن هذا الترحيل حوَّل الرفض الصريح للوحدة إلى رفض متستر برفض الدستور..ولو أن المسيرة المليونية المسلحة التي شهدتها صنعاء ضد الدستور تمت قبل إعلان الوحدة لكانت دليلا كافيا على عدم جاهزية نظام الشمال للوحدة..لكن هذا الدليل لم يكشف عن نفسه إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس.

المرتكزات التي قامت عليها وحدة 22 مايو 1990:

قامت الوحدة على أربعة مرتكزات هي: الشراكة؛ الديمقراطية؛ الإصلاح؛ التحالف..ستقولون من أين جئت بهذا الكلام؟..والجواب: هذا الكلام تضمنته كل خطابات علي سالم البيض إبتداء من 30 نوفمبر 1989 وحتى 21 مايو 1994..فكل خطابات البيض بدون استثناء طافحة بهذه المفردات..وستلاحظون تباعا مدى الاتساق بين هذه المرتكزات وبين نقاط الاتفاق الأربع التي نقلناها عن جار الله عمر..ويمكنكم أيضا العودة إلى حديث مطوَّل أدلى به علي صالح لرياض نجيب الريس ونشره هذا الأخير في كتاب "رياح الجنوب" الصادر عام 1998 إذا لم تخني الذاكرة.

مرتكز الشراكة:

الأصل في وحدة 22 مايو 1990 هو الشراكة، وليس الديمقراطية..والشراكة نوعان: شراكة وطنية بين الشمال والجنوب، وشراكة سياسية بين اليمنيين من خلال أحزابهم وتنظيماتهم السياسية..الأولى شراكة توافقية، والثانية شراكة منضبطة لآليات الديمقراطية..الأولى موضوعها بناء الدولة، والثانية موضوعها التنافس على السلطة..وعلى هذا الأساس ذهب الجنوب إلى الوحدة كشريك وطني مع الشمال في بناء دولة الوحدة، بينما ذهب إليها الحزب الاشتراكي كشريك سياسي مع المؤتمر الشعبي العام وغيره من الأحزاب في إدارة دولة الوحدة.

وأساس الشراكة الوطنية حقيقة جغرافية تاريخية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال، والشمال جزء من اليمن وليس جزءا من الجنوب..وهما – الشمال والجنوب – ندان في صياغة عقد الوحدة والتوافق عليه وتطبيقه.

وبما أن الوحدة لم تقم على أساس فيدرالي مؤهل للتعبير عن الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب فقد جرى التعبير عنها من خلال التكافؤ بين الرئيس والنائب..وإذا عدتم إلى حديث صالح مع نجيب رياض الريس ستجدونه يتحدث عن أيْمان أبرمها الرجلان، وعن صلاحيات متساوية بينهما..إننا هنا إزاء نائب بصلاحيات رئيس..وعندما أراد صالح أن يتنصل من هذا التكافؤ قال: "لا يصلح أن يكون هناك سيفان في غمد واحد"..لكن في كل الأحوال كان القرار الرئاسي قرارا جماعيا يصدر عن مجلس الرئاسة، وليس عن الرئيس.

والتمييز بين الشراكة الوطنية والشراكة السياسية يقتضي تلقائيا التمييز بين فترتين إنتقاليتين:

1 – الفترة الانتقالية المحددة في اتفاق إعلان الوحدة بسنتين ونصف..وهذه لها بعد قانوني يغلِّب موادا في اتفاق إعلان الوحدة على مواد في الدستور، ومهمتها إنهاء مظاهر التشطير بدمج حقائق الدولتين، وتنتهي بإجراء إنتخابات نيابية تنتقل معها دولة الوحدة إلى الوضع الدستوري الكامل الذي يحرك الشراكة السياسية من الهامش إلى المتن.

2 - الفترة الانتقالية اللازمة للبناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة وترسيخ نظامها السياسي..والغرض منها الانتقال بالشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب إلى شراكة سياسية كاملة بين اليمنيين..وهذه الفترة لا تقاس بالزمن وإنما بالإنجاز، ولا تنتهي إلا في ظروف اشتغال ديمقراطي طبيعي لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على النحو الذي يسمح لأي حزب إذا خرج من السلطة بآليات الديمقراطية أن يعود إليها بالآليات نفسها.

وبما أن الوحدة قامت بين دولتين وليس بين حزبين فإن دور كل من الرئيس ونائبه خلال هذه الفترة لا يتوقف على عدد مقاعد حزبه في البرلمان، وإنما على التكافؤ بين الشمال والجنوب في إعلان الوحدة وبناء دولتها..فالعلاقة بين الرئيس والنائب هي عمليا تجسيد للعلاقة المتكافئة بين الشمال والجنوب..وكأننا هنا إزاء فيدرالية ذاتية بين الرئيس والنائب حلت محل الفيدرالية الموضوعية بين الشمال والجنوب..والمبرر لهذا أن نموذج الدولة البسيطة المتوافق عليه لدولة الوحدة ما يزال في حالة جنينية ويحتاج إلى وقت وإلى ثقة متبادلة كي يشتد عوده وينضج.

لكن البيض اكتشف أن دولة الوحدة لا تسير وفق المسار المتفق عليه وأن الطرف الآخر ذهب إلى الوحدة بحسابات أخرى غير تلك التي أعلن عنها..واحتجاجا على ذلك مارس البيض اعتكافين صامتين في معاشيق..وأثناء الاعتكاف الثاني كان موعد الانتخابات النيابية يطرق الأبواب..وبالنظر إلى أن الشمال يحتوي على 80% من الدوائر الانتخابية كان الطرف الآخر يستعجل هذه الانتخابات لإنهاء الفترة الانتقالية التي كان حلفاؤه في حزب التجمع اليمني للإصلاح يسمونها فترة "إنتقامية"، لا بسبب الاغتيالات التي طالت كوادر الحزب الاشتراكي، وإنما بسبب المناصفة في السلطة بين الشمال والجنوب..ولهذا اضطر الرئيس أن يذهب شخصيا إلى معاشيق ليسترضي النائب.

وفي هذا اللقاء الاسترضائي تم توثيق الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب بأثر رجعي بصياغة وثيقة سميت "وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام" التي أنهت الاعتكاف الثاني وهيأت المناخ السياسي لإجراء إنتخابات أبريل 1993 النيابية..ولعلكم تذكرون أن قيادة المؤتمر الشعبي العام كانت قبل الاعتكاف الثاني للبيض قد رفعت شعار " لا شراكة إلا بالدمج "، أي دمج الاشتراكي والمؤتمر الشعبي في حزب واحد..وهذا ما رفضته اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني بالإجماع تقريبا، لأنه يتضمن انقلابا على التعددية السياسية في البلاد..فالدمج لن يؤدي في أحسن الأحوال إلا إلى هيمنة حزب واحد كبير وتهميش غيره..والآن لا حظوا كيف جرى توثيق الشراكة الوطنية في الوثيقة المذكورة من خلال أبرز بنودها التي نصت على إدخال تعديلات جوهرية على الدستور بعد الانتخابات تتضمن ما يلي:

1 – إلغاء مجلس الرئاسة واستبداله برئيس ونائب ينتخبان مباشرة من الشعب في قائمة واحدة.

2 – تشكيل مجلس شورى تمثل فيه المحافظات بالتساوي، ويشكل مع مجلس النواب جمعية وطنية يرأسها النائب.

3 – أن تتمتع المحافظات وما دونها بحكم محلي كامل الصلاحيات.

4 – إجراء تقسيم إداري جديد للبلاد يزيل مظاهر التشطير وتعقبه مباشرة انتخابات المجالس المحلية.

وهناك بنود أخرى تتصل بالعلاقة الثنائية بين الحزبين، وفيها تم الاتفاق على التنسيق في مختلف المستويات التنظيمية في العاصمة والمحافظات..كما أتفق أن يشكل الحزبان كتلة واحدة في البرلمان..أما توحيد الحزبين فقد ترك للمستقبل..والآن لاحظوا الشراكة الوطنية في بنود الوثيقة؟

1 – من الوهلة الأولى يبدوا أن انتخاب الرئيس والنائب من الشعب في قائمة واحدة مخالف لقواعد الديمقراطية والتنافس بين حزب الرئيس وحزب النائب..وهذا صحيح لو أن الحديث يدور حول الشراكة السياسية بين الأحزاب، لكنه يدور حول الشراكة الوطنية بين الجنوب والشمال..ثم أن الأمر هنا متعلق بتأسيس الدولة، وليس بالتنافس على السلطة..وفي عملية التأسيس الرئيس يمثل الشمال وليس المؤتمر الشعبي العام، والنائب يمثل الجنوب وليس الحزب الاشتراكي..فالوحدة تمت بين دولتين وليس بين حزبين.

2 – رئاسة الدولة للشمال، ونائب الرئيس والجمعية الوطنية للجنوب..وكان منتظرا من التعديلات الدستورية المتفق على إجرائها أن تحقق التوازن والتكامل بين الرئاسة والجمعية الوطنية..وهذا التوازن سيكون بين الشمال والجنوب، وليس بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني.

3 – أما ما يتعلق بالحكم المحلي كامل الصلاحيات فكان الغرض منه التخلص من مساوئ المركزية ونقل جزء كبير من سلطة المركز إلى المحليات على النحو الذي يحقق قدرا كبيرا من الشراكة بين اليمنيين في السلطة والتوزيع العادل للثروة ويخلق شروطا موضوعية لتسريع عجلة التنمية.

تأسيسا على بنود الوثيقة المذكورة كانت قيادة الاشتراكي تنظر إلى الوحدة كبذرة تحتاج إلى رعاية واهتمام وإلى تعاون وتساند..بينما نظرت إليها قيادة المؤتمر الشعبي كثمرة ناضجة قيد القطاف وأرادت أن تنفرد بقطفها وأكلها..وهذا واضح من طريقة التعامل معها..فبعد الانتخابات تشكلت حكومة ائتلافية من الأحزاب الثلاثة التي حازت على معظم مقاعد البرلمان..وقام البرلمان المنتخب بالتمديد لمجلس الرئاسة خمسة أشهر يتاح خلالها الوقت الكافي لإجراء التعديلات الدستورية المتفق عليها في وثيقة التنسيق والتحالف..وفي هذه الأثناء سافر البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية..وأثناء غيابه صوتت كتلتا المؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح (الأغلبية العددية) على مسوَّدة تعديلات دستورية تجاوزت كل ما نصت عليه "وثيقة التنسيق والتحالف...".. فلا صلاحيات دستورية للنائب، ولا إنتخاب شعبي للرئيس والنائب في قائمة واحدة، ولا جمعية وطنية يرأسها النائب، ولا حكم محلي واسع الصلاحيات.

ومن أمريكا نظر النائب إلى ما حدث على أنه انقلاب أبيض نفذته الأغلبية العددية الشمالية، وبدا له أنه لم يقد الجنوب إلى الوحدة وإنما إلى الضم والإلحاق..ولهذا قرر أن يفشل هذا الإنقلاب بإخراج الأزمة من أقبية الائتلاف الثلاثي إلى العلن فعاد من واشنطن إلى عدن..ومن هناك أعلن عن وجود أزمة داخل الائتلاف الحاكم أساسها عدم قدرة أطرافه على التوصل إلى تفاهم وتوافق حول بناء الدولة.

أنكر الطرف الذي فيه الرئيس الأزمة وقال إنه لا وجود لها إلا في رأس البيض، واتهم هذا الأخير بالتمرد على الشرعية الدستورية والمطالبة بنصيب في السلطة أكبر من نصيب حزبه في البرلمان، وكأن الطرف الآخر في الوحدة هو الحزب الاشتراكي وليس الجنوب.

ومن جانبه رفض البيض الاستقواء بالأغلبية العددية داخل برلمان يتلقى التعليمات من خارجه، وطلب من الطرف الآخر الاعتراف بالأساس الموضوعي للأزمة والإقبال على حلها بروح التفاهم والتوافق الوطني بعيدا عن مفهوم الأغلبية والأقلية وحسابات الربح والخسارة..فقضايا الخلاف كانت حول بناء الدولة (كدمج الجيش وتوحيده – مثلا)..وهذه لا تحل إلا على قاعدة التوافق، وليس برفع الأيدي في البرلمان..أما الشرعية الدستورية التي جاءت بها الانتخابات فهي ليست خالصة للشمال دون الجنوب، ولا لتحالف المؤتمر والإصلاح دون الاشتراكي، ومن غير الجائز أن يحتكرها طرف واحد لمجرد أنه أغلبية عددية أفرزتها إنتخابات في بلد يفتقر للإندماج الوطني الحقيقي.

لقد كان البرلمان المؤسسة الوحيدة المنتخبة التي يمكن أن يعول عليها في حل الأزمة بإرغام الرئيس ونائبه على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا، لكنه كان من الناحية العملية برلمانين الأغلبية فيه عددية نجمت عن التفاوت الكبير في عدد السكان وبواسطة إنتخابات جرت في بلد يعاني من آثار التشطير ويفتقر إلى الاندماج الوطني الحقيقي..ولذلك تحول هذا البرلمان إلى ساحة اقتتال وظهر كجزء من المشكلة وليس جزءا من الحل.

وفي هذه الأثناء أوشكت الخمسة الأشهر التي مددها البرلمان لمجلس الرئاسة على الانتهاء..وحتى لا تدخل البلاد في فراغ دستوري أعيد انتخاب مجلس رئاسة على أساس 2-2-1 وفقا لما جاء في مبادرة من 18 نقطة تقدم بها الاشتراكي لحل الأزمة..فخرج المؤتمري عبد الكريم العرشي من المجلس ليحل محله الإصلاحي عبد المجيد الزنداني..وبهذا ظل نصيب الشمال في مجلس الرئاسة 3 مقاعد مقابل مقعدين للجنوب..لكن وسائل الإعلام وزعت المقاعد بين الأحزاب الثلاثة وتحدثت عن نصيب للإشتراكي في مجلس الرئاسة أكبر من حجمه في البرلمان، وليس عن نصيب للجنوب أقل من حجمه ودوره في عملية توحيد البلاد..وبهذه الطريقة كانت تقدم الوحدة للرأي العام كما لو كانت بين حزبين وليس بين دولتين.

وبانتخاب مجلس الرئاسة لمعت في الأفق بارقة أمل سرعان ما تلاشت عندما أذاع الإعلام الرسمي في صنعاء أن مجلس الرئاسة انتخب علي صالح رئيسا وأن علي صالح عيَّن علي البيض نائبا له..وهذه صياغة خبرية مخالفة – عن عمد – لمحضر اتفاق قضى بإخراج متكافئ لموقعي الرئيس والنائب..وبسبب هذه المخالفة اعتذر النائب خطيا عن الحضور إلى صنعاء لأداء اليمين الدستورية أمام البرلمان يوم 16 أكتوبر 1993.

وبسبب عدم أهلية البرلمان للوقوف على مسافة واحدة من الرئيس والنائب خرجت الأزمة إلى فضاء الحوار الوطني الموسع حيث تشكلت لجنة حوار القوى السياسية التي شخصت الطابع الوطني العام للأزمة وصاغت الحل في وثيقة العهد والاتفاق..وكانت هذه الوثيقة بمثابة اتفاق جديد على الوحدة شاركت فيه كل الأطراف..لكن ميزان القوى في البلاد لم يكن لصالح تطبيق الوثيقة وبناء الدولة..وهذا يفسر الاندفاع السريع نحو الحرب التي قضت على الشراكة الوطنية بين الجنوب والشمال وأبقت على شراكة سياسية شكلية بين الأحزاب مع إقصاء الحزب الاشتراكي الذي أصبح حزبا محظورا من الناحية العملية صودرت كل مقاره وأمواله.

مرتكز الديمقراطية:

يشير مرتكز الديمقراطية في الوحدة إلى الشراكة السياسية بين الأحزاب والتنظيمات السياسية..ولأن الوحدة قامت بين دولتين كل منهما ذات نظام غير ديمقراطي فقد بدأت الشراكة السياسية بقسمة السلطة على (2) هما المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني..لكن الوحدة اقترنت بالديمقراطية كآلية للإنتقال التدريجي والمتواصل بالشراكة السياسية من مستوى القسمة على (2) إلى مستوى القسمة على الجميع بواسطة انتخابات دورية يفترض أن يؤدي تعاقبها المنتظم إلى إثبات وثبات نقاء مبادئ الدولة الجديدة ومصداقية الخيار الديمقراطي لنظامها السياسي.

وقد أثبت مرتكز الديمقراطية مصداقيته في أول انتخابات نيابية جرت بعد الوحدة عندما نقل الشراكة السياسية من مستوى القسمة على (2) إلى مستوى القسمة على (3) وجاء بحزب التجمع اليمني للإصلاح كشريك ثالث في البرلمان والحكومة ومجلس الرئاسة، فضلا عن شركاء آخرين في البرلمان كالبعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق..لكن النية كانت معقودة على التخلص من الحزب الاشتراكي وإخراجه من الحياة السياسية بالقوة..ونتائج الانتخابات عززت هذه القناعة عند الطرف الآخر الذي كانت له قراءتان لنتائج إنتخابات أبريل النيابية: قراءة معلنة وأخرى غير معلنة.

وملخص القراء المعلنة أن الحزب الاشتراكي مني بهزيمة كبرى في الانتخابات نقلته من شريك بالمناصفة مع المؤتمر الشعبي العام إلى شريك ثالث بعد التجمع اليمني للإصلاح..أما القراءة غير المعلنة فهي قراءة قيادة المؤتمر الشعبي العام، وليس قراءة حزب الإصلاح الذي كان حينها واقعا تحت هيمنة الفقهاء..والفقهاء لا يقرأون، وإنما يحفظون فقط..وملخص هذه القراءة أن الديمقراطية إذا استمرت على هذا النحو فستكون لصالح الحزب الاشتراكي وتجمع الإصلاح والأحزاب الأخرى على حساب المؤتمر الشعبي العام تحديدا..والآن تعالوا نقرأ تلك الانتخابات من حيث النتائج ومن حيث البيئة والمناخ العام اللذين أحاطا بها.

أولا: من حيث النتائج.

لتقييم نتائج تلك الانتخابات تقييما موضوعيا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشمال هو المعقل التاريخي للمؤتمر الشعبي العام، وأنه يحتوي على 80% من الدوائر الانتخابية..والمتوقع أن يحصل المؤتمر الشعبي على أغلبية كاسحة في معقله..وهذا من الأمور التي كانت حاضرة في حسابات علي سالم البيض..ولهذا كانت الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب، وليس التنافس الديمقراطي بين الأحزاب، هي الأصل في اتفاق الوحدة..أما القول بأن قيادة الاشتراكي ذهبت إلى الوحدة وفي حسابها أنها ستكتسح معظم مقاعد الشمال أل(245) فليس له ما يفسره سوى أنه جاء في سياق التحضير المبكر وغير المعلن لحرب 1994 وتهيئة الرأي العام لقبولها.

لكن المؤتمر الشعبي العام لم يحصد سوى 121 مقعدا من مقاعد الشمال، أي أقل من النصف..وكانت هذه نتيجة صادمة لقيادة المؤتمر الشعبي العام التي دفعت بمرشحين كلهم تقريبا من مراكز القوى وأهل السلطة والنفوذ والمال، وخاضت الانتخابات من خلال التحالف والتنسيق المحكم مع التجمع اليمني للإصلاح ضد الحزب الاشتراكي والمستقلين المحسوبين عليه أو المدعومين منه..وكان التحالف والتنسيق بين هذين الحزبين على أشده في كل الدوائر التي كان فيها مرشحون للحزب الاشتراكي..وهذا يعني أن المؤتمر الشعبي العام مدين بالنتيجة التي حققها في تلك الانتخابات للتجمع اليمني للإصلاح.

أما بقية دوائر الشمال ال(124) فقد ذهبت على التوالي لصالح حزب الإصلاح والاشتراكي والبعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق، وحوالي عشرين دائرة ذهبت لصالح مستقلين محسوبين على/ أو قريبين من/ المؤتمر والإصلاح والاشتراكي.

وقياسا على الشمال كان الجنوب (56 دائرة) المعقل التاريخي للحزب الاشتراكي..وباستثناء دائرة واحدة تركت للمؤتمر الشعبي العام لصالح أحد كبار مناضلي الجبهة القومية، ودائرة أخرى تركت لمرشح مستقل ذهبت بقية الدوائر لصالح مرشحي الحزب الاشتراكي (رسميين 36 + مستقلين 18)..وكان هذا النجاح مفزعا لقيادة المؤتمر الشعبي العام..لكن نجاح الاشتراكي في الشمال لم يكن أقل إفزاعا للاعتبارات التالية:

1 – خاض الاشتراكي الانتخابات أعزلا من أي تحالف أو تنسيق.

2 – مرشحوه كانوا جميعا من أبناء الطبقة الوسطى، ليس بينهم صاحب نفوذ أو سلطة أو مال..ولهذا كان تصويت الناخبين تصويتا للحزب وليس للمرشحين.

3 – حقق نجاحات انتخابية في محافظات تعز والبيضاء وإب والحديدة ومأرب وصنعاء (حرف سفيان)..وانتزع منه النجاح بالقوة في حاشد (الشهيد علي جميل).

4 – في الدوائر التي خسرها كان مرشحوه يأتون ثانيا بفارق بسيط في الأصوات.

5 – جاء ثانيا في إجمالي الأصوات على مستوى الجمهورية.

6 - 49% من إجمالي أصواته جاءت من محافظات الشمال مقابل 51% من محافظات الجنوب..وبهذا ظهر كحزب وطني لعموم اليمن، بينما ظهر المؤتمر والإصلاح كحزبين شماليين (11% فقط من إجمالي أصوات المؤتمر و 9% فقط من إجمالي أصوات الإصلاح جاءت من محافظات الجنوب).

2 – جاء ثالثا في عدد مقاعد البرلمان بحسب إعلان اللجنة العليا للإنتخابات التي احتسبت فقط مقاعده الرسمية (36 دائرة في الجنوب + 18 دائرة في الشمال = 56 دائرة)..وإذا أضفنا إلى هذا الرقم مقاعد أعضائه الذين دخلوا البرلمان كمستقلين فإن وزنه الفعلي في البرلمان أكبر بكثير من العدد المعلن..فضلا عن المستقلين القريبين منه.

هذه هي القراءة غير المعلنة لنتائج الانتخابات التي جرت شمالا في بيئة ومناخ عام لم يكن لصالح الاشتراكي..ومع ذلك بدت النتائج مخيفة للطرف الآخر فقرر أن يجعلها ديمقراطية لمرة واحدة فقط غير قابلة للتكرار إلا بشروطه ، ولا سبيل إلى ذلك سوى إخراج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية عسكريا.

ثانيا: من حيث البيئة والمناخ العام.

جرت الانتخابات في مناخ عام لم يكن متوافرا على شروط حقيقية للديمقراطية..وهذا حكم بنيناه على الحيثيات التالية:

1 – لم يكن اختيار الناخبين لمرشحيهم قائما على استقلالية الفرد وعدم تزوير إرادته.

2 – حرية الاختيار الفردي كانت مندغمة في المجموع العصبوي القبلي..ولهذا لم يكن لكل فرد صوت واحد في الانتخابات، وإنما كان لمئآت وآلاف الأفراد صوت عصبوي واحد هو صوت القبيلة.

3 – كانت حرية الاختيار الفردي متأثرة إلى حد كبير بالتحريض الأيديولوجي الديني ومحمولات الصراع التاريخي بين الشطرين..ولذلك راجت في دوائر الشمال شعارات من قبيل:" إنتخب من يخاف الله"؛ "صوتك أمانة في عنقك سيحاسبك عليه الله يوم القيامة"...الخ..ولهذه الشعارات تأثير كبير في بيئة تغلب عليها الأمية والتعليم المؤدلج ودور العبادة المسيَّسة.

لذلك غابت الأكثرية الانتخابية وحضرت الأغلبية العددية في نتائج الانتخابات..غير أن الأغلبية العددية تصرفت كما لو كانت أغلبية إنتخابية معبرة عن وجود اندماج وطني حقيقي في ظروف طبيعية زالت معها كل آثار التشطير..وقد انطوى هذا التصرف على خلط كبير بين الشراكة الوطنية المتعلقة ببناء الدولة على قاعدة التفاهم والتوافق، والشراكة السياسية المتعلقة بالقضايا التي يمكن حسمها بعد الأصوات في البرلمان..وكان المراد من هذا الخلط إجبار الحزب الاشتراكي على التخلي عن الشراكة الوطنية للجنوب في البناء الديمقراطي الناجز لدولة الوحدة بحجة أن الحزب لم يحافظ على نصيبه من السلطة الذي كان له خلال الفترة الانتقالية المحددة بسنتين ونصف..والملاحظ أن هذه الحجة تطابق بين الجنوب وبين الحزب الاشتراكي بطريقة تختزل الشراكة الوطنية للجنوب في الشراكة السياسية للحزب الاشتراكي، وتتجاهل الفارق المهول في عدد السكان..وبسبب هذا الفارق لم تكن الشراكة الوطنية ممكنة إلا على قاعدة التفاهم والتوافق، أو على قاعدة المناصفة بين الجنوب والشمال في مقاعد البرلمان..وليس من قبيل المصادفة أن هذه المناصفة هي التي اعتمدها مؤتمر الحوار الوطني في إطار الحل السياسي العادل للقضية الجنوبية، وبدونها يتعذر على الجنوب أن يستعيد مكانته كشريك أصيل في المعادلة الوطنية.

مرتكز الإصلاح:

ينصرف هذا المرتكز إلى أمرين اثنين أولهما إصلاح كل ما ورثته دولة الوحدة من سنوات التشطير، سواء كان هذا الإرث من صناعة نظام الشمال أو من صناعة نظام الجنوب، أو كان بسبب حروبهما البينية الباردة والساخنة..وتحت هذا المفهوم للإصلاح تندرج قضايا كثيرة في الشمال والجنوب لا يصح معها القول بأن وحدة 22 مايو 1990 قامت على القفز فوق مشاكل الماضي..والصحيح أن إصلاح مشاكل الماضي لم يكن من بين حسابات الطرف الشمالي في تعامله مع قضية الوحدة..ولمن يتهمنا بالتحامل عليه نقول: حاكموه من خلال النهج الذي سار عليه بعد حرب 1994 لتكتشفوا أننا لا نتحامل، وإنما نسمي الأشياء بأسمائها.

ولكن هذا لا يعفي قيادة الحزب الاشتراكي ممثلة بعلي سالم البيض من المسئولية..فالرجل لم يذهب إلى الوحدة ذهابا مدروسا وآمنا وموثَّقاً..وبسبب ذلك يتهمه البعض بالهرولة..ومن جانبنا نجزم باستحالة إعلان وحدة 22 مايو 1990 بغير هذه الهرولة، لأن الطرف الآخر لم ولن يقبل بوحدة مدروسة وآمنة وغير قابلة للإنقلاب عليها..ومن يريد أن يتأكد من ذلك يكفيه أن يقرأ مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر..فالمشكلة ليس في هرولة البيض التي هي في أسوأ الأحوال مخاطرة شجاعة ونبيلة بالمقاييس الوطنية، وإنما في الطرف الآخر الذي غدر به ومارس معه "الخناق بالعناق"..ومع ذلك نكرر: كل هذا لا يعفي البيض من المسئولية، خاصة وأنه استقوى على رفاقه بقدسية الوحدة لينفرد بقرار تاريخي لا يحتمل الانفراد به.

الأمر الثاني الذي ينصرف إليه مرتكز الإصلاح هو دمج حقائق الدولتين وجميعها – باستثناء العلم والنشيد الوطني – لم تكن قد دمجت عند إعلان الوحدة..فالوحدة لم تقم منذ البداية على الدمج الفعلي لحقائق الدولتين، وإنما على الجمع الميكانيكي لبعض هذه الحقائق (الحكومة والبرلمان مثالا)، وعلى المجاورة بين بعضها الآخر (وحدات الجيش - مثالا)، على أن يتم دمجها خلال الفترة الانتقالية المقدرة في إعلان الوحدة بسنتين ونصف، بحيث تفضي عملية الدمج إلى حقائق جديدة نوعيا هي حقائق دولة الوحدة، لا حقائق دولة الشمال ولا حقائق دولة الجنوب.

 

وبسبب المجاورة والجمع الميكانيكي احتفظت حقائق كل دولة بتبعيتها البنيوية للنظام الذي أنتجها..وكان مجلس الرئاسة يدير حقائق دولتين تتوقف العلاقة بينها على نوع العلاقة بين الرئيس والنائب..لكن الخطورة الكبيرة في هذا الإجراء مثلتها وحدات الجيش التي تجاورت من غير دمج ثم انزلقت بسهولة نحو الحرب في مناخ الأزمة السياسية..وقد أسفرت الحرب عن تدمير حقائق دولة الجنوب وتعميم حقائق دولة الشمال على اليمن كله..وبهذا سقط اتفاق الوحدة التي تحولت إلى ضم وإلحاق..والحرب من وجهة نظر القانون الدولي كانت حربا داخلية، أما من الناحية الفعلية فقد كانت حربا بين دولتين تعذر دمج حقائقهما..والنظام الذي فرضته الحرب هو نظام الجمهورية العربية اليمنية الذي ترفضه قوى الحراك الجنوبي جملة وتفصيلا.

مرتكز التحالف:

بما أن الوحدة قامت على الدور المحوري للحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي فإن مستقبلها يتوقف على نوع العلاقة التي ستنشأ بينهما سلبا وإيجابا..ومن أجل أن تنعكس هذه العلاقة على الوحدة إيجابا أُتفق أن تكون العلاقة بين هذين الحزبين علاقة تحالفية..وبما أن المرحلة من الناحية الموضوعية هي مرحلة بناء الدولة، وليس مرحلة تنافس على السلطة فإن التحالف بين الحزبين ليس إلا نواة لتحالف وطني واسع يكون بمثابة الربان الذي يجب أن يقود سفينة الوحدة إلى بر الأمان بتمكين مرتكزات الشراكة والديمقراطية والإصلاح من التحقق الفعلي.

يضاف إلى ذلك أن التحالف سيؤدي إلى تراجع الحساسيات الأيديولوجية القديمة بين الأحزاب إلى حدودها الدنيا لصالح القضايا العملية في بناء الدولة، وسيعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الديمقراطية..فالديمقراطية غير ممكنة، داخل وبين الأحزاب، ما لم تقم العلاقة بينها على قدر كبير من الثقة المتبادلة.

غير أن الطرف الآخر في اتفاق الوحدة سار على نهج مختلف قوامه استثمار الحساسيات الأيديولوجية القديمة والموروث التاريخي للصراع بين الشطرين من أجل تأزيم الحياة السياسية في البلاد على النحو الذي يحقق مصالحه الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العليا..وبهذا النهج قاد البلاد إلى حرب 1994 المسئولة عن بروز القضية الجنوبية.

نشأة القضية الجنوبية:

إن دولة الوحدة، وليس الوحدة هي موضوع الخلاف الذي قاد إلى حرب 1994 وتسبب في نشوء القضية الجنوبية..وعلى من يعتقد أن المنتصر في الحرب كان هو صاحب الحق في ذلك الخلاف أن يسأل نفسه: لماذا لم يحقق لليمنيين حلمهم الوطني في بناء دولة المواطنة التي تطلعوا إليها؟ ما الذي منعه من ذلك وقد أصبح صاحب الصولة والجولة والفارس الوحيد في الميدان؟.

إذاً العبرة في نتائج الحرب وليس في مقدماتها الخطابية والشعاراتية..والواضح من النتائج أنها لم تكن حربا مبررة، لا وطنيا ولا سياسيا ولا أخلاقيا..إنها حرب مضمرة حركها تحالف كبار قادة الجيش وكبار شيوخ القبيلة وكبار شيوخ المؤسسة الدينية وكبار أصحاب المال والأعمال الذين راكموا ثروات هائلة بسرعة قياسية وبطرق غير مشروعة، وعلي صالح كان مايسترو هذا التحالف الذي عزف على شعارات وطنية ودينية لتمرير الحرب.

لقد ذهب المنتصر يمارس في الجنوب جرائم وانتهاكات منظمة وممنهجة لم تكن تخطر على بال أحد لا في الشمال ولا في الجنوب..وطالت هذه الجرائم الأرض وباطنها والبحر وأعماقه، واعتدت على الإنسان – العسكري والمدني - وثقافته وكرامته وتاريخه ورمزياته وأحلامه، فضلا عن مكتسباته التي كانت قد تحققت له على هيئة مؤسسات ومنشآت ومزارع دولة وتعاونيات..وتحتفظ قوى الحراك بمجلدات من البيانات الإحصائية التي تبين جرائم المنتصر في المحافظات الجنوبية.

وكرد فعل على هذه الجرائم نشأت في الجنوب حركة إحتجاجية ذات طابع مطلبي حقوقي تخاطب الضمير الوطني والإنساني للمنتصر..لكن المنتصر قابل ذلك الحراك بالقمع المادي بواسطة الجيش والأمن، وبالقمع المعنوي بواسطة آلة إعلامية ظلت لسنوات تضخ خطابا تخوينيا تكفيريا طافحا بمفردات التسفيه والتحقير والازدراء..وفي هذه الظروف الصعبة تشكلت في الجنوب قناعات من نوع مختلف لها ما يسندها على صعيد الواقع، وتتلخص فيما يلي:

1 – إن المنتصر يستخدم الوحدة وشعاراتها وقدسيتها لابتزاز الجنوب والسيطرة عليه وإخضاعه ونهب مقدراته وتحويل معظم سكانه إلى فقراء مهانين ومهمشين.

2 – إن الجنوبيين يدفعون ثمن حلمهم بالوحدة وتعلقهم بها ونضالهم من أجلها وذهابهم إليها.

3 – إن الجنوبيين كأقلية عددية لا يستطيعون تغيير المشهد السياسي الذي فرضته حرب 1994 بواسطة ديمقراطية مقيدة ومشوهة تحسم نتائجها أغلبية عددية مغيبة ومتأثرة بشعارات الحرب وتتنازعها أيديولوجيات ومراكز قوى ونزعات جهوية وقبلية.

4 – إن المعركة مع المنتصر هي معركة من أجل الوجود والكرامة، لا من أجل المكانة.

وعندما تأخذ المواجهة هذا البعد فإن الطرف المغلوب يفتش عن أقرب وأفتك سلاح للدفاع عن نفسه..وفي هذه الأثناء التفت الجنوبيون شمالا بحثا عن التضامن الوطني فوجدوا آراء واتجاهات تساير الجلاد ضد الضحية..وحتى لا نقع في التعميم نعترف بوجود اتجاهين شذَّا عن هذه المسايرة، ومع ذلك كانا مخيبين للآمال..الاتجاه الأول سياسي، والآخر عاطفي مثالي.

وملخص الاتجاه السياسي أن مأساة الجنوب سببها ليس حرب 1994 وإنما إدارة علي صالح لنتائج تلك الحرب..فعلي صالح، وفقا لهذا الاتجاه، لم يقل لأهل الجنوب بعد "فتحه" ما قاله النبي (ص) لقريش بعد فتح مكة: "إذهبوا فأنتم الطلقاء"..إذاً المشكلة وفقا لأصحاب هذا الاتجاه ليست في "الفتح" الذي يعتبرونه فريضة دينية، وإنما في إدارة قائد "الفتح" لنتائج الحرب..والمغالطة الكبرى في هذا الخطاب تكمن في أن أصحابه لا يستطيعون أن يثبتوا بأن إدارة علي صالح للقضايا الوطنية بعد الحرب تختلف عن إدارته لهذه القضايا قبل الحرب..والصحيح أن الذي تغير في علي صالح ليس طريقة إدارته، وإنما طبيعة تحالفاته السياسية وانقلابه على شركاء "الفتح".

أما الاتجاه المثالي فملخصه: إصبروا وصابروا؛ لا تكونوا أنانيين؛ يوجد في الشمال ظلم أكثر من الظلم الواقع عليكم؛ المشكلة ليست في الوحدة؛ الذين ينهبون الجنوب ليسوا شماليين فقط وإنما بينهم جنوبيون أيضا؛ وغير ذلك من الأطروحات المثالية التي تطلب من الجنوبيين أن يتشابهوا مع الشماليين كما يتشابه الموتى في المقابر، وإلا فهم إنفصاليون تحركهم الأنانية وحب الذات..وهذا تفكير إلحاقي يتعامل مع الجنوب مثلما يتعامل مع أي محافظة من محافظات الشمال ويعبر عن عدم معرفة بماهية القضية الجنوبية في بعدها السياسي.

إزاء ذلك يئس الجنوبيون من الشماليين والتفتوا إلى جنوبهم فوجدوا سلاح الجغرافيا السياسية وما يتعلق بها من تاريخ ورمزيات كَعَلَمِ الدولة التي كانت، ثم استقاموا على الأرض وهم يرفعون الأعلام قائلين: "نحن جنوب عربي واقع تحت الاحتلال اليمني ولا نقبل بأقل من استعادة دولتنا"..وهذا ليس لأنهم إنفصاليون، وإنما لأن المنتصر أغلق أمامهم كل أبواب المقاومة تحت مظلة الوحدة ولم يبقِ لهم إلا خيار استعادة الدولة..وهذا يفسر لماذا ظهرت القضية الجنوبية لصيقة بجغرافية الجنوب رغم طابعها الوطني العام.

الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية:

ولو أن الجنوبيين استسلموا لإرادة المنتصر في حرب 1994 لتعذرت ثورة الشباب عام 2011..وهذا دليل إضافي على الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية..ولكن رغم ثورة الشباب التي أسقطت مشروع التوريث بقي تحالف حرب 1994 قابضا على مفاصل السلطة بعد التوقيع على المبادرة الخليجية، وإن في مشهد خلافي وصراعي.

كما أن التعاطي مع القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني لم يكن مطمئنا للجنوبيين بدليل أن فريقها في هذا المؤتمر إختلف وتعثر، والحل الذي تضمنته مخرجات الحوار بشأن القضية الجنوبية صاغه المبعوث الأممي، وليس مكونات فريقها في المؤتمر..ولكل هذه الأسباب مازال شعار "فك الارتباط" مرفوعا.

من المنظور السياسي والوطني لسنا مع فك الارتباط، ومن المنظور نفسه لسنا مع الوحدة المعمدة بالدم..أما من المنظور الأخلاقي فالمساواة غير جائزة، لأن فك الارتباط إذا تحقق بواسطة النضال السلمي المدني فإنه أشرف بما لا يقاس من وحدة فرضتها الدبابات وراجمات الصواريخ..والمقارنات التي يعقدها البعض بين حرب 1994 والحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية وحروب بيسمارك ضد نبلاء الأقاليم في ألمانيا مقارنات باطلة جملة وتفصيلا لعدم تساوي الشروط وبسبب اختلاف دوافع الفاعلين هنا وهناك والهوة الأخلاقية الكبيرة بينهم..فحرب 1994 لم تكن مبررة ولم تكن من أجل الوحدة، ولم تكن الوحدة بحاجة إلى حرب..والخلاف كان حول الدولة، وما يزال إلى اليوم متمحورا حول الدولة..أي أن الحرب لم تنه هذا الخلاف وإنما رحلته إلى مؤتمر الحوار الوطني، ولكن بعد أن أساءت إلى قضية الوحدة ونقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس.

القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني:

يقول البعض إن القضية المركزية التي انعقد من أجلها مؤتمر الحوار الوطني هي القضية الجنوبية، وبدونها ما كان لهذا المؤتمر أن ينعقد..والحقيقة أن القضية المركزية في المؤتمر هي قضية بناء الدولة..لكن العلاقة بين القضيتين علاقة تلازم جوهري تتعذر معها الوحدة بدون الدولة..فالقضية الجنوبية نتجت عن خلاف حول الدولة، وحلها حلاً عادلا في ظل الوحدة غير ممكن إلا بحل مسألة الدولة..ولو أن الحراك الجنوبي رفع شعار "الدولة مقابل الوحدة" على غرار "الأرض مقابل السلام" لظهر البعد الوطني العام للقضية الجنوبية واضحا حتى للإنسان العادي في الشمال.

إن شعار "الدولة مقابل الوحدة" لا يسقط شعار "فك الارتباط" وإنما يحوله من شعار جنوبي إلى شعار يمني متسق مع حقيقة أن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة وليس بين جهتين في الجغرافيا..والدولة هي محور خلاف هذين الاتجاهين..ونتائج الحرب تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الاتجاه الذي انتصر في الحرب هو الاتجاه الرافض للدولة، وأن الوحدة بالنسبة له ليست سوى قميص عثمان الذي ارتداه للتغطية على هذا الرفض.

وعلى افتراض أن الحراك رفع شعار "الدولة مقابل الوحدة" وأن المنتصر رفض القبول بدولة تحفظ بقاء الوحدة..وعلى افتراض أن الشعب في الشمال لم يتعاطف مع شعار "الدولة مقابل الوحدة" ولم يتحرك لإسقاط نظام المنتصر، فإن يمنية هذا الشعار لا تلغي الجنوب ولا تصادر حقه في فك الارتباط، وإنما تحفظ للجنوب وحدته التي حققها في 30 نوفمبر 1967 كجنوب يمني وتقطع الطريق على كل من يحلم أن يعود به إلى ما قبل هذا التاريخ متذرعا بمسمى الجنوب العربي الذي نعلم أنه كان مشروعا سياسيا إستعماريا مفصلا على عدن والمحميات الغربية فقط.

إن مسمى "الجنوب العربي" والنكوص عن مسمى "اليمن الجنوبي" ينم عن وجود قاسم مشترك كبير بين المتعلقين بهذا المسمى وبين المنتصر في حرب 1994..فكلاهما يعتدي على التاريخ الوطني للجنوب، وتحديدا على ثورة 14 أكتوبر 1963..وكلاهما تحركه كراهية من نوع ما لهذه الثورة وإن تظاهر بحبها، أو اعتقد أنه يحبها..والفارق أن المتعلقين بمسمى الجنوب العربي يسعون – من حيث يدرون أو لا يدرون - إلى تمزيق الجنوب، بينما ذهب المنتصر إلى إلغائه وضمه وإلحاقه والتعامل معه كجغرافيا مجردة من تاريخها الوطني.

إن شعار "الدولة مقابل الوحدة" شعار صعب قياسا إلى شعار "فك الارتباط" تحت مسمى الجنوب العربي الذي نراه شعارا سهلا..والصعوبة في الشعار الأول آتية من كونه شعارا سياسيا يحتاج إلى عقل سياسي..بينما الشعار الثاني شعار عدمي يتغذى على التحريض المفرغ من السياسة..فالشعار الأول يحتاج إلى برنامج عملي، بينما يكتفي الثاني بالخطابات الملتهبة..ولهذا غاب البرنامج عند فصائل الحراك وحضرت الخطابات والهتافات..يضاف إلى ذلك أن الشعار الأول شعار توحيدي، بينما الثاني شعار تمزيقي..ولهذا نرى الحراك حراكات.

إن السياسة في الشعار الأول تقوم على التشخيص الموضوعي للقضية الجنوبية وعلى اقتراح الحل الواقعي الذي ينطلق من المصلحة الحقيقية للإنسان العادي في الجنوب، وهي بالضرورة تلتقي مع مصلحة الإنسان العادي في الشمال..والتشخيص الموضوعي يشير ضمنا إلى خصوم هذه القضية دون أن يختراع لها أعداء من خارج الدائرة الضيقة للخصوم الفعليين..ولهذا قلنا إنه شعار صعب..والصعوبة ليست معرفية ناجمة عن استعصاء قراءة جذور القضية ومحتواها، وإنما ذاتية كامنة في أولئك الذين تصدوا للقراءة بأوجاعهم لا بعقولهم..ومن يقرأ بأوجاعه هو عمليا لا يقرأ وإنما يمارس الانتقام، والمقام ليس مقام انتقام، وإنما مقام انتصار..والحراكيون الذين شاركوا في مؤتمر الحوار الوطني كانوا عمليا ينتصرون للقضية الجنوبية، على خلاف أولئك الذين قالوا:" هذا المؤتمر لا يعنينا".

إن مأثرة مؤتمر الحوار الوطني تكمن في أنه تجاوز خطابات الحراك الحماسية وهتافاته إلى صياغة برنامج عقلاني لبناء دولة تعيد الجنوب إلى وضعه الطبيعي في الشراكة الوطنية..وبصياغة هذا البرنامج تشكلت لحظة تاريخية على فصائل الحراك أن تلتقطها لتنتصر بغير حرب في ظل الوحدة مع الشمال أو بدونها في ظل جنوب موحد..وشعار هذه اللحظة:" تنفيذ مخرجات الحوار الوطني مقابل الوحدة "..فإذا كنتم حريصين فعلا على الوحدة نفذوا مخرجات الحوار، ما لم إتركونا ننفذها في الجنوب بدون الوحدة، وعندما تتأهلون لها سنتوحد.

إن هذا الشعار يعيد الكرة إلى مرمى المتنفذين في الشمال تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، وينقل الجنوب من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم، ويعيد موضعة "الوحدوي والانفصالي" في الوعي العام الذي شوهته شعارات حرب 1994..فالانفصالي هو الذي يضع العراقيل أمام تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ويدفع الجنوب دفعا إلى فك الارتباط بالشمال – وليس باليمن - ليتمكن من تنفيذ مخرجات الحوار الوطني في الجنوب لتصبح الدولة هناك هي الدولة الأنموذج التي توافق عليها اليمنيون شمالا وجنوبا..وهذه الدولة هي التي سيجري تعميمها سلميا على الشمال في المستقبل عندما يتغلب على المتنفذين الانفصاليين ويصبح جاهزا لوحدة طوعية مع الجنوب على أساس الدولة المتوافق عليها يمنيا في مؤتمر الحوار الوطني الذي شاركت فيه كل مكونات مجتمع الشمال.

ولكن هذا التحليل لا يعفينا من التعرف على المقاومة التي واجهها الحل العادل للقضية الجنوبية داخل مؤتمر الحوار الوطني..فكل مكونات فريق القضية الجنوبية أجمعت على أنها قضية سياسية وطنية عادلة بامتياز..وكلها أقرت ببعديها الحقوقي والسياسي..والبعد الحقوقي لم يكن محل خلاف لأنه يُرى بالعين المجردة ويمكن التعبير عنه بواسطة الأرقام..أما البعد السياسي فكان محل خلاف رغم الإجماع عليه، لأن كل مكوِّن يفهمه من منظوره الخاص..ولكي لا تغرق مكونات الفريق في بحر الخلافات ساعدتها الأمانة العامة للمؤتمر بِمُيَسِّرينَ محترفين، واستقرت موضوعات الحوار على ثلاثة محاور:

1 – جذور القضية الجنوبية.

2 – محتوى القضية الجنوبية.

3 – الحلول والضمانات.

على أن ينتهي الحوار في هذه المحاور إلى توافق على شكل الدولة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية..فالحل هنا سياسي لتعلقه بالدولة التي هي موضوع الخلاف الذي أفضى إلى حرب 1994..وهو حل وطني بمعنى أنه يجب أن يتم في إطار الوحدة..وهو عادل بمعنى أنه يجب أن يضمن عودة الجنوب إلى وضعه الطبيعي في المعادلة الوطنية كشريك في الوحدة، وأن يحقق للشعب اليمني حلمه في دولة مواطنة تنتفي في ظلها الأزمات والحروب.

إذاً الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية هو الذي سيحدد شكل الدولة..فالشكل هنا تحدده المعرفة الموضوعية بهذه القضية، وليس التوجهات الأيديولوجية والحسابات السياسية لمكونات الحوار وأطرافه..ولهذا دار الكلام عن حوار وطني، وليس عن تفاوض سياسي..فالتفاوض يقوم على سعي كل طرف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والخروج بأقل قدر من الخسائر، ونتيجته تتوقف على ميزان القوى بين المتفاوضين وعلى ما بأيديهم من أوراق ضاغطة..أما الحوار الوطني فأمره مختلف شكلا ومضمونا..فهو أولا حوار بين أطراف متكافئة، بصرف النظر عن أوزانها الحقيقية في الواقع الفعلي..وهو ثانيا يقوم على أكبر قدر من التشارك والتعاون والتساند بين الأطراف للوصول إلى الحقيقة والتقاطها، بصرف النظر عن الطرف الذي ظهرت الحقيقة على يديه..والحقيقة بهذا المعنى حقيقة وطنية وأساسها معرفي في المقام الأول.

ولكن هل سارت الأمور على هذا النحو داخل فريق القضية الجنوبية؟ الجواب: لا..والحوار لم يكن حوارا وإنما تفاوض غير مباشر، حيث عمل كل مكوِّن على انفراد وقدم رؤية مكتوبة في جذور القضية الجنوبية وأخرى في محتواها وثالثة في الحلول والضمانات..وقد أتاحت هذه الآلية لكل مكوِّن أن يكتب ما يريد وأن يتجاهل ما يريد وأن يفسر ما يريد كما يريد..وقد أدى هذا إلى ظهور تباينات كبيرة في تشخيص الجذور والمحتوى نتج عنها تباينات كبيرة في الحلول والضمانات المقترحة..وقد أمكن تصنيف الحلول المقترحة إلى خمس مجموعات على النحو التالي:

1 – دولة إتحادية مستقلة في الجنوب..وهذا مقترح الحراك.

2 – دولة إتحادية يكون فيها الجنوب إقليما واحدا موحدا بشكل جديد..وهذامقترح الاشتراكي، واقترب منه إلى حد ما أنصار الله.

3 – دولة بسيطة لا مركزية..وهذامقترح حزب الرشاد.

4 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم، مع تداخل جغرافي بين الشمال والجنوب عند تقسيم الأقاليم.

5 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم، مع إحالة موضوع التقسيم إلى خبراء ومختصين.

والمقترحان الرابع والخامس هما من الناحية العملية مقترح واحد..وأصحاب هذين المقترحين هم حزب الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام والوحدوي الشعبي الناصري وحزب العدالة والبناء.

إذا حاكمنا المقترحات الخمسة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية سنجد أنفسنا منطقيا أمام احتمالين:

1 – إما أن تكون جميعها خاطئة.

2 – وإما أن يكون مقترح واحد فقط صائبا والأربعة الأخرى خاطئة.

أما أن تكون جميعها صائبة، أو حتى إثنان، فهذا يخالف أبسط قواعد التفكير المنطقي..ونحن نرى مقترح الاشتراكي هو المقترح الصائب، ليس على وجه الإطلاق، وإنما من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية في المدى المنظور..وملخصه مناصفة بين إقليمين أو مساواة بين عدة أقاليم، وفي الحالتين الجنوب إقليم واحد موحد بشكل جديد..أما بقية المقترحات فقد جانبها الصواب..وحتى لا نتهم بالتحيز سنعرضها على السئوال التالي: ما هي المشكلة التي تصدت لها هذه المقترحات وأرادت أن تحلها؟..إذا عدتم إلى هذه المقترحات ستلاحظون ما يلي:

1 – مقترح الحراك جاء خارج إطار الوحدة..يعني يبحث عن فك ارتباط..وهذا تطرف في مواجهة تطرف آخر مضاد يتذرع بالخوف على الوحدة لفرض حلول سياسية بواسطة "الحوار" يعلم أن شروط قبولها غير متوفرة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية..كما أن الخوف على الوحدة ينطوي على اتهام مبطن بأن الجنوب بيئة خطرة عليها..وهذا غير مقبول أخلاقيا من أي طرف شارك في حرب 1994 أو أيدها، وليس له أي مبرر سوى اختلاق العقبات أمام الحل العادل.

2 – مقترح حزب الرشاد انشغل بالوحدة وليس بدولة الوحدة..ولهذا ابتعد عن ملامسة جوهر القضية الجنوبية.

3 – مقترح بقية الأحزاب انشغل بمحاصرة جغرافيا الجنوب بجغرافيا لشمال..والمحرك هنا ليس دولة الوحدة وإنما الوحدة، وكأن الجنوب يشكل خطرا عليها ويجب محاصرته..وإذا علمنا أن الجغرافيا السياسية للجنوب كانت هي الملاذ الأخير الذي لجأ إليه الجنوبيون في المواجهة مع المنتصر في حرب 1994 سنعلم أن الجنوبيين، على المدى المنظور، لا يمكن أن يفرطوا بهذه الجغرافيا ما لم يأتِ الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية الذي ينهي واقع الضم والإلحاق ويعيد الجنوب إلى وضعه الطبيعي في المعادلة الوطنية ويضمن له شروط بقاء آمن ومستقر في دولة الوحدة.

وإذا بحثنا في الأسباب التي جعلت المقترحات المذكورة تجانب الصواب سنجدها كما يلي:

1 – أسباب معرفية.

2 – أسباب سياسية.

3 – أسباب أيديولوجية.

4 – أسباب إجرائية متعلقة بآلية التفاوض غير المباشر التي حلت محل آلية الحوار التعاوني التشاركي.

وقد تظافرت كل هذه الأسباب على إنتاج التباينات التي رأيناها في مقترحات مكونات فريق القضية الجنوبية..ولهذا حكم على هذا الفريق أن يتعثر..وجميعنا يعلم أن المبعوث الأممي هو الذي صاغ الحل فيما عرف ب"وثيقة بن عمر"، وأحيل تقسيم الأقاليم إلى لجنة شكلها رئيس المؤتمر..وهذه اللجنة قسمت الجنوب إلى إقليمين أحدهما يشغل ثلثي مساحة اليمن تقريبا، وهو الأقل سكانا بين الأقاليم الستة.

جذور القضية الجنوبية:

لم تهتم مكونات فريق القضية الجنوبية بتوحيد المفاهيم والمصطلحات والتعريفات التي اشتغلت عليها..ولم تحاول الإجابة على سئوال: ما هو جذر القضية؟ وما هي شروطه الجوهرية التي بدونها لا يكون الجذر جذرا؟..ولهذا تعددت الجذور إلى درجة يحتار معها المرء: هل يضحك أم يغضب؟..ومن بين هذه الجذور اقتطاع بريطانيا للجنوب، وحرب جبهتي التحرير والقومية قبيل استقلال الجنوب، وقانون التأميم، وغياب المرجعية الإسلامية في تشريعات دولة الجنوب...الخ

وباستثناء الحزب الاشتراكي اليمني، وإلى حد ما أنصار الله، ذهبت المكونات الحزبية في فريق القضية الجنوبية تفتش عن معظم جذور هذه القضية في الجنوب..وهذا لا يتسق مع الإقرار بطابعها الوطني الذي أجمعت عليه كل مكونات الفريق..ذلك أن البحث عن جذور هذه القضية في الجنوب دون الشمال ينزع عنها مقدما صفة الوطنية ويحولها إلى قضية جنوبية خالصة..وإذا صح أنها جنوبية خالصة فإن الحوار بشأنها لا يستقيم إلا إذا كان حوارا جنوبيا جنوبيا لا دخل للشمال فيه سوى احترام النتائج التي سيتمخض عنها، أي كانت.

واتساقا مع الطابع الوطني للقضية الجنوبية نراها ذات جذرين أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب..وجذرها الشمالي هو المسئول عنها على صعيد السببية..أما الجذر الجنوبي فلم يفعل سوى تقديم المناسبة..وحرب 1994 هي من التجليات العنيفة لجذر القضية الجنوبية في بعده الشمالي.

الجذر الشمالي للقضية الجنوبية:

انبثقت دولة الجمهورية العربية اليمنية في مناخ صراعي أفضى في الأخير إلى نظام سياسي عصبوي غير مؤهل لوحدة مع الجنوب قائمة على الندية والشراكة الوطنية..والحقيقة أن نظام الجمهورية العربية اليمنية بمركزه العصبوي وتحالفاته لم يكن قائما على الشراكة بين مكونات مجتمع الشمال أصلا، وإنما على هيمنة المركز العصبوي..ومن البديهي أنه سيقاوم الندية والشراكة مع الجنوب ما لم تكن "شراكة" إنتقائية تخدم حاجات المركز العصبوي وتمكنه من توسيع مصالحه في الجنوب دون أن تهددها في الشمال..وتأسيسا على ذلك يمكن صياغة الجذر الشمالي للقضية الجنوبية على النحو التالي:" عدم أهلية النظام السياسي في الشمال لوحدة مع الجنوب قائمة على الشراكة الوطنية"..ومن أجل اسئصال هذا الجذر يجب إعادة تأهيل هذا النظام كي يقبل بالشراكة التي يرفضها..ومن هنا جاء الحل الفيدرالي، أي تغيير شكل الدولة.

الجذر الجنوبي للقضية الجنوبية:

إنبثقت دولة الجنوب هي الأخرى في مناخ صراعي أفضى في النهاية إلى نظام سياسي غير مؤهل لذهاب آمن ومدروس إلى الوحدة مع الشمال..ومن أجل اسئصال هذا الجذر يجب توفير ضمانات بقاء آمن ومدروس للجنوب في ظل الوحدة..وهذه الضمانات لا تقتصر على مضمون الدولة وإنما تطال شكلها أيضا.

محتوى القضية الجنوبية:

للقضية الجنوبية محتوى حقوقي ومحتوى سياسي..الأول لا خلاف حوله..والثاني محل خلاف..وعموما يتمثل المحتوى السياسي للقضية الجنوبية في إخراج الجنوب من المعادلة الوطنية بواسطة حرب 1994، وتحويله من شريك في الوحدة بإرادته إلى ملحق بنظام الشمال بغير إرادته.

تعريف القضية الجنوبية:

بعد هذا العرض للقضية الجنوبية يمكننا أن نعرفها بأنها تعبير ملتبس عن أزمة المشروع الوطني اليمني ممثلا بدولة الوحدة التي انتظرها اليمنيون طويلا وعلقوا عليها كثيرا من الآمال..أما كونها تعبير ملتبس فلأن طابعها الوطني العام توارى خلف التسمية واحتاج إلى جهد ذهني كبير للكشف عنه وإبرازه..ولأن لهذه القضية خطوط تماس مع شبكة واسعة من المصالح المشروعة وغير المشروعة، في الشمال وفي الجنوب، ولأن كل طرف في هذه الشبكة ينظر إليها ويعرِّفها من الزاوية التي تهمه وتروق له، فقد تعذر على مكونات فريقها في مؤتمر الحوار الوطني أن تجمع ضمنيا على تعريف محدد لها..يضاف إلى ذلك أن آلية التفاوض غير المباشر التي حكمت عمل هذا الفريق أعفت مكوناته من البحث عن تعريف موضوعي لهذه القضية.

منطلقات عامة للتفكير في الحل السياسي العادل للقضية الجنوبية:

تقتضي المعالجة الموضوعية للقضية الجنوبية التعامل معها بقدر كاف من العقلانية السياسية بعيدا عن الأهواء والرغبات والتحيزات.وفيما يلي مجموعة من المنطلقات العامة التي نعتقد أنه بدونها يتعذر التعاطي الموضوعي مع هذه القضية.

1 - إن الخلاف القائم منذ أغسطس 1993 هو خلاف حول دولة الوحدة وليس حول الوحدة.

2 - إن الوحدة أستخدمت ذريعة لإشعال حرب 1994.

3 - إن حرب 1994 كانت هروبا من استحقاقات بناء دولة الوحدة.

4 - إن حرب 1994 عمقت أزمة دولة الوحدة وجعلتها أكثر تعقيدا.

5 - إن القضية الجنوبية من تجليات أزمة الدولة وليس من تجليات أزمة الوحدة.

6 - إن الدفاع عن الوحدة في مواجهة القضية الجنوبية هو عمليا دفاع عن حرب 1994 ونتائجها.

7 - إن شعار فك الارتباط ليس شعارا مناوئا للوحدة، وإنما لدولة الوحدة بوضعها الراهن الذي يحمل سمات وخصائص دولة الشمال ونظامها السياسي.

8 - إن الحراك الجنوبي السلمي هو من الناحية الموضوعية حراك وطني يعبر عن قضية سياسية وطنية بغض النظر عن الطريقة التي يقدم بها نفسه داخل فوضى المشهد السياسي اليمني المليئ بالتعقيدات والمناورات.

9 - إن دولة الوحدة بوضعها الراهن منذ 7 يوليو 1994 مشكلة، واستعادة دولة الجنوب ليس حلا.والحل يكمن بتوافق اليمنيين على دولة بمضمون وشكل جديدين.

10 - إن شكل الدولة يجب تحديده في ضوء التشخيص الدقيق والموضوعي لجذور القضية الجنوبية في الشمال وفي الجنوب،وفي ضوء التحديد الدقيق لمحتواها السياسي.

11 - إن الحل الوطني العادل للقضية الجنوبية فرصة تاريخية أمام أبناء الشمال قبل أبناء الجنوب،وإلا فلا مصداقية لأحاديثهم حول الدولة المدنية الديمقراطية، وأيضا لا معنى لتعلقهم بالوحدة إلا من قبيل التعلق العاطفي الغنائي غير العقلاني الذي لا يرفع الظلم عن الجنوب ولا يجلب العدل للشمال.

12 - إن الفرصة التاريخية المتاحة أمام اليمنيين من خلال الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية مرشحة للضياع إن هم إنشغلوا بأزمة الوحدة عن أزمة الدولة.

13 - إن الانشغال بالوحدة لا يستقيم إلا على أساس جهوي طرفاه الشمال والجنوب. أما الانشغال بالدولة فهو انشغال وطني بين اليمنيين مصنفين على أساس سياسي لا على أساس جهوي.

14 - إن الحراك الجنوبي السلمي لا يمثل الجنوب إلا من حيث أن الجنوب ضحية مباشرة لحرب 1994 في جوانبها الحقوقية.أما من الناحية السياسية فالحراك هو حامل اجتماعي للقضية الجنوبية كقضية وطنية يتعذر في الظروف الراهنه حلها حلا عادلا لصالح الشعب اليمني في الشمال والجنوب دون حضوره الفاعل والمؤثر. وأي حل للقضية الجنوبية – مهما بدا عادلا – لن يتمتع بالمشروعية الكافية إن هو قام على تقريب فصائل في الحراك الجنوبي السلمي واستبعاد فصائل أخرى.

15 - بغير يمن موحد سيظل الشمال مشكلة في الجنوب والجنوب مشكلة في الشمال على نحو أكثر خطورة مما كان عليه الحال قبل 22 مايو 1990.وليس أمام اليمنيين إلا التوافق على دولة لكل مواطنيها إنطلاقا من مصلحة الإنسان العادي في الجنوب والشمال بعيدا عن أهواء وتحيزات النخب.

16 - إن الواقعية السياسية تقتضي أن لا تقابل المطالبة بالاستفتاء على فك الارتباط بالرفض المطلق، وإنما بالقبول المشروط. وشرط الاستفتاء أن يتم في ظروف طبيعية غير صراعية وغير انفعالية وعلى قاعدة نقاش عقلاني شفاف يستطيع معه المواطن العادي في الجنوب أن يفاضل بين البقاء في الوحدة أو فك الارتباط إنطلاقا من إدراكه الحقيقي لمصلحته ومصلحة أبنائه بعيدا عن الأوهام والأهواء والتحيزات التي لا تقيم دولا ولا تبني أوطانا.وعلى الذين يريدون أن يكون الاستفتاء لصالح البقاء في الوحدة أن يسارعوا إلى خلق شروطه الطبيعية وأن لا يركنوا على استحالة حدوثه في غيابها،فاليمن ليس جغرافيا معلقة في فضاء خاص به، وإنما في فضاء إقليمي ودولي يؤثر عليها ويتأثر بها، وقد يذهب إلى تحبيذ وتشجيع حلول لا يحبذها معظم اليمنيين.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

قراءة 2253 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة