من أجل كتلة وطنية واسعة مناهضة للحرب ومن أجل بناء الدولة "1"

الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 00:35 كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الجمهورية اليمنية ( 1990 – 2015) "الجزء الاول"

         ونحن نقرأ المشهد السياسي اليمني قبضنا على ثلاث قضايا صراعية نعتقد أنها تظافرت لتشكل في مجموعها أزمة اليمن الراهنة..وهي: 1 – إدارة الدولة..2 – إعادة بناء الدولة..3 – القضية الجنوبية..وهذه القضايا تداخلت وتفاعلت منذ العام 1990 إلى اليوم حتى ألفى الشعب اليمني نفسه واقعا تحت طائلة الموت والدمار والحصار والجوع والمرض والخوف والتشرد..وكل هذا إلى أجل لا أحد يعرف منتهاه.. وأي حل لا يعالج هذه القضايا الثلاث معالجة جذرية ليس حلا البتة..والمعالجة الجذرية تبدأ من التشخيص الموضوعي الدقيق الذي لا يجاري ولا يحابي.

         وبالقبض على هذه القضايا تجنبنا الوقوع في خداع التبسيط المخل للأزمة الذي يصورها على أنها وليدة 21 سبتمبر 2014..وكأن اجتياح مليشيات الحوثي للعاصمة وتوسعها في المحافظات هو سبب وليس نتيجة..فالتبسيط المخل والمخادع لن يخرج اليمن من أزماته المستدامة بقدر ما يعقدها ويغلق الأبواب أمام حلها، وفي أحسن الأحوال يرحلها إلى أجل غير مسمى لتنفجر من جديد..ونحن إذ نقدم هذه القراءة إنما نقدمها لكل يمني يريد أن يكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة..أما الذين ظلوا يصنعون أزمات اليمن ويراكمونها منذ عقود فليسوا مؤهلين لأن يكونوا جزءا من الحل..ومما يؤسف له أن هؤلاء هم الذين يتصدرون المشهد الآن وقد انقسموا إلى فريقين متصارعين أحدهما يبحث عن الحل في الرياض والآخر يبحث عنه في طهران..وما لم يكن الحل يمنيا ومرجعيته وطنية فلا أمل في الخروج من عنق الزجاجة.

أولا: الجمهورية اليمنية (مايو 1990 – يوليو 1994).

         يكمن جوهر المشكلة اليمنية في أن مسار التطور التاريخي للشعب اليمني لم يفضِ إلى إنتاج دولة حديثة تخضع هي نفسها للقانون وتساوي بين مواطنيها أمامه دون أي تمييز من أي نوع كان..والفشل في إنتاج هذه الدولة خلال نصف قرن مضى يفسر كل الحروب والأزمات الدورية والمستدامة في هذا البلد على كل المستويات.

من الثورة إلى السلطة:

         صنع اليمنيون ثورة في الشمال ضد نظام الإمامة القروسطي وأخرى في الجنوب من أجل توحيده واستقلاله..لكن لأسباب كثيرة من الداخل وأخرى مساندة من الخارج لم تفلح أي من الثورتين في إنتاج دولة مدنية لكل مواطنيها.

         ففي الشمال إنتكست الثورة بعد نحو سبع سنوات من الحرب بين الجمهوريين والملكيين..ثم انتكست محاولة الرئيس الحمدي التصحيحية وذهب هو شخصيا ضحية نهجه الوطني الإصلاحي..وفي عهد الرئيس صالح آل مشروع الدولة التي بشرت بها الثورة إلى سلطة يتقاسم امتيازاتها بأحجام متفاوتة تحالف خماسي تألف من كبار قادة الجيش، وكبار شيوخ القبائل، وكبار رجال الدين، وكبار السياسيين الرسميين أصحاب الشهادات الجامعية والعليا الذين يئسوا من إمكانية بناء الدولة واختاروا أن يكونوا جزءا من السلطة على أن يكونوا خارجها، ثم الطارئين من أهل المال والأعمال الذين راكموا ثروات كبيرة مستفيدين من فساد السلطة والطموح الشخصي لرئيسها..وعندما تأسس حزب المؤتمر الشعبي العام تحت شعار " توسيع المشاركة الشعبية في الحكم" لم يكن في الواقع العملي سوى مظلة لهذا التحالف الذي لم تجتمع أطرافه على برنامج وطني لبناء الدولة بقدر ما اجتمعت كعصابات ترى في بناء الدولة نقيضا لمصالحها.

         وفي الجنوب تطرفت الثورة وتحول مشروع الدولة إلى سلطة صريحة لحزب "العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين" وخلت القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي من غير هذه الفئات..ولم يكن التطرف نحو اليسار وقتها اختيارا معرفيا مدروسا بقدر ما كان اختيارا سياسيا ثوريا زمن الحرب الباردة في بلد فقير شحيح الموارد معظم جغرافيته طاردة للسكان، ويقع في محيط إقليمي غني، تقليدي، يتطير من الثورات، والتأثير الأكبر فيه لدولة واحدة غنية ذات مسار إقليمي لا تمد يد العون إلا إلى نخب تقليدية تسجيب لما تريد..والنخب التقليدية ذات النفوذ في الجنوب أطاحت بها ثورة 14 أكتوبر وأقصتها لأنها – إلا ما ندر -  وقفت ضد الهوية اليمنية للجنوب وضد توحيده في دولة وطنية واحدة كخطوة على طريق التوحيد الكامل لليمن.

         وكانت التنمية هي هدف الثورة في الشمال وفي الجنوب..ولم تكن الديمقراطية ولا حقوق الإنسان من بين القضايا الحاضرة في الثقافة السياسية لنخبتي الحكم في الجانبين..وهذه إشكالية كبيرة ألقت بظلالها الكثيفة على الدولة وعلى الاستقرار السياسي ومن ثم على التنمية التي لم تحقق، لا في الشمال ولا في الجنوب، معدلات النجاح التي توقعها الشعب اليمني في مناخ الثورتين وشعاراتهما..ومع مرور الوقت فقدت الثورتان الجاذبية التي كانت لهما عند الشعب لتحل محلها جاذبية الوحدة اليمنية التي غدت أمل اليمنيين في الانتقال إلى دولة خالية من تطرف سلطة اليسار في الجنوب وفساد سلطة اليمين في الشمال وقادرة على تحقيق التنمية التي يتطلع إليها الشعب.

دولة الوحدة:

         في 22 مايو 1990 أعلن عن قيام الجمهورية اليمنية على أساس الجمع بين الوحدة والديمقراطية..وبهذا الإعلان لاحت فرصة تاريخية لبناء دولة مدنية حديثة في مناخات مواتية أتاحها خارجيا انتهاء الحرب الباردة، وأتاحها داخليا الفرح الشعبي الجارف بالوحدة التي حملت معها بشائر دولة ديمقراطية نافية للفساد والاستبداد وخالية من التطرف ومؤهلة لتحقيق التنمية..لكن النخب السياسية في السلطة وفي المعارضة لم تكن عند مستوى هذا الإنجاز التاريخي.

         وفي الوقت نفسه لم يكن الوعي الجمعي العام مدركا للعلاقة الجدلية بين الوحدة ودولة الوحدة، وأن عافية الأولى مشروطة بعافية الثانية وديمقراطيتها..وهذا من بين أهم العوامل التي أغرت أطراف التحالف الخماسي المذكور آنفا بالذهاب إلى حرب 1994 تحت شعارات الوحدة، بينما كانت دولة الوحدة، وليس الوحدة، هي موضوع الخلاف الذي فجر الحرب..وإذا كانت العبرة في نتائج الحرب لا في مقدماتها وشعاراتها فالنتائج أهدرت الفرصة التاريخية التي وفرتها الوحدة لبناء الدولة وفي الوقت نفسه أنتجت أزمة في الوحدة نفسها ترتب عليها ظهور تيار واسع في الجنوب يطالب بفك الارتباط بعد أن كانت ثورة 14 أكتوبر قد جعلت من الوحدة قدس الأقداس.  

الفترة الإنتقالية (مايو 1990 – أبريل 1993):

         في مسألة الدولة يجري عادة التمييز بين إدارتها وبين إعادة بنائها..فالإدارة تتم على قاعدة التنافس الديمقراطي بين الأحزاب إذا كانت الدولة ناجزة البناء وجاهزة لهذا التنافس..أما إعادة البناء فتتم على قاعدة التوافق الوطني بما يضمن عدم تحيز أي من مؤسساتها لهذا الطرف أو ذاك..ولم يكن الهدف من الفترة الانتقالية المشار إليها سوى إعادة بناء مؤسسات دولة الوحدة على قاعدة التوافق الوطني والتكافؤ بين الشمال والجنوب ومن ثم تأهيلها لممارسة الديمقراطية.

         وما حدث أن النخب السياسية في السلطة والمعارضة وضعت العربة قبل الحصان واستعجلت إنهاء الفترة الإنتقالية بالذهاب إلى انتخابات تنافسية في ظل دولة غير ناجزة وغير مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف..وكانت الفترة الإنتقالية موضوع خلاف بين من يراها محددة بزمن تنتهي بانتهائه وبين من يراها محددة بمهام وطنية لا تنتهي إلا بإنجازها..ولم تكن أغلبية النخب في المعارضة تنظر إلى الفترة الانتقالية على أنها فترة بناء مؤسسات دولة الوحدة بقدر ما نظرت إليها على أنها فترة تقاسم ثنائي للسلطة بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام..ولهذا اعتبرتها "فترة إنتقامية"..وكانت في حالة شوق جارف لانتهاء الزمن المحدد للفترة الانتقالية لاعتقادها أن الانتخابات ستعيد توزيع السلطة توزيعا نزيها على الجميع، ولم تكن تدرك أن حالة مؤسسات دولة الوحدة غير مؤهلة بعد لمثل هذا التوزيع وأن النتيجة ستكون لصالح حزبي السلطة ومعهما التجمع اليمني للإصلاح الذي كان حينها في جوهره حزب سلطة إرتدى شكل المعارضة..وكان لتحالف الفئات الخمس مصلحة مشتركة في تقييد الفترة الانتقالية بالزمن الذي حددته اتفاقية إعلان الوحدة بسنتين ونصف بصرف النظر عن مهامها الخطيرة التي لم تنجز وعلى رأسها دمج مؤسستي الجيش والأمن..لذلك آلت إنتخابات 1993 البرلمانية إلى أزمة سياسية أفضت إلى حرب 1994 التي فجرتها أزمة الدولة..والحرب لم تنهِ أزمة الدولة وإنما رحلتها وأضافت إليها أزمة في الوحدة..وهذه نتيجة طبيعية لأي ديمقراطية بلا ديمقراطيين..ولأن النخب السياسية اليمنية لم تستوعب دروس الفترة الانتقالية التي أعقبت إعلان قيام دولة الوحدة فقد أساءت التصرف خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة فبراير 2011 ومكنت الثورة المضادة من إعادة ترتيب أوضاعها ومن ثم الإنقلاب المسلح على توافقات هذه المرحلة..وهذا ما سنكشف عنه في هذه القراءة.

تعثر دمج مؤسسات الدولتين:

         أعلنت الوحدة بين دولتي الشمال والجنوب على أن تكون دولتها مختلفة، لا هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب وإنما دولة اليمن..واتفق أن تبنى دولة الوحدة على قاعدة دمج مؤسسات الدولتين السابقتين دمجا وطنيا ينهي ولاءاتها السابقة لصالح الولاء لليمن..لكن الذي حدث من الناحية العملية أن إعلان دولة الوحدة لم يقم على الدمج منذ البداية وإنما على أساس الجمع الميكانيكي لبعض المؤسسات، كالبرلمانين اللذين جمعا في قاعة واحدة، أو على أساس المجاورة، كما حصل مع مؤسستي الجيش اللتين تم نقل بعض وحداتهما من الجنوب إلى الشمال والعكس لتتجاور بغير دمج.

         ومن الطبيعي والأمر كذلك أن تظل هذه المؤسسات محتفظة بولاءاتها السابقة، وأن تتوقف علاقاتها البينية على نوع العلاقة بين رموز النظامين السابقين..وأبرز هذه الرموز الرئيس علي صالح ونائبه علي سالم البيض..لذلك رأينا أنه عندما وصلت العلاقة بين الرجلين إلى مستواها الصفري حدث الصدام بين معسكرات الجيش المتجاورة بما فيها تلك التي كان أفرادها يصلُّون معا في جامع واحد ويأكلون من مطبخ مشترك.

         وأن تقوم الوحدة منذ البداية على أساس الجمع الميكانيكي أو المجاورة بين مؤسسات الدولتين فهذا – على ما فيه من مغامرة كبيرة - أمر يمكن تفهمه مادامت هناك فترة إنتقالية من بين أبرز مهامها الانتقال بهذه المؤسسات من حالتي الجمع الميكانيكي والمجاورة إلى حالة الدمج الوطني.

         وبما أن الدمج في جوهره يتعلق ببناء مؤسسات دولة الوحدة فقد كان موضوع خلاف كبير، وعلى نحو خاص دمج مؤسستي الجيش والأمن..وهذا الخلاف كان من حيث شكله خلافا بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام حول إدارة الدولة..أما من حيث مضمونه فقد كان خلافا بين الشمال، الذي يهيمن عليه التحالف الخماسي، والجنوب الذي يهيمن عليه الحزب الاشتراكي، حول إعادة بناء الدولة..والذي حجب هذا المضمون عن الأنظار هو انفراد قيادة الحزب الاشتراكي بتمثيل الجنوب في الوحدة مع الشمال وانفراد قيادة المؤتمر الشعبي العام بتمثيل الشمال في الوحدة مع الجنوب..ولو أن الوحدة قامت على مبدأ المشاركة الواسعة للجنوب والشمال لما تعثرت الفترة الانتقالية في إنجاز مهامها.

         ولكن لماذا استبعد مبدأ المشاركة في إعلان قيام دولة الوحدة وبناء مؤسساتها؟..ليست الإجابة على هذا السئوال هي ما يجب أن ينشغل به اليمنيون اليوم وهم يتطلعون إلى المستقبل، وإنما الدرس الذي يجب أن يتعلموه من استبعاد مبدأ المشاركة في القضايا الوطنية، وتحديدا تلك التي تتعلق ببناء الدولة ككيان جامع.

إخراج الجنوب من المعادلة الوطنية:

         هناك أمر جوهري لا يجوز القفز عليه ونحن نتطلع إلى المستقبل وهو أن حرب 1994 كانت من وجهة نظر القانون الدولي حربا في نطاق دولة واحدة..أما من الناحية الواقعية فقد كانت حربا بين مؤسسات دولتين أعيق دمجها..وقد أفضت الحرب إلى تدمير مؤسسات دولة الجنوب وحلها وتسريحها، وعلى نحو خاص مؤسسة الجيش الذي أحيل جماعيا إلى التقاعد القسري..وفي الوقت نفسه تم تعميم دولة الشمال على الجنوب كما لو كانت هي دولة الوحدة، وأصبح اسمها الجمهورية اليمنية بدلا عن الجمهورية العربية اليمنية..وبهذا خسر الجنوب دولته دون أن يحصل على الدولة التي ذهب إلى الوحدة من أجلها..أي أن الجنوب أخرج من المعادلة الوطنية كشريك وطني في بناء دولة الوحدة وتحولت الوحدة بالنسبة له إلى ضم وإلحاق قسري، وكأنه استدرج إلى الوحدة ليلقى هذا المصير الذي نقل الحدود الشطرية السابقة بين الشمال والجنوب من الجغرافيا إلى النفوس..وهنا تحديدا يكمن الجذر السياسي للقضية الجنوبية.

         والمحرك الفعلي الذي وقف وراء تعميم دولة الشمال على الجنوب هو المركزية الإلحاقية المهيمنة على كامل الشمال منذ ما قبل ثورة سبتمبر 1962..وبدلا من التخلي عنها كشرط لازم لبناء دولة الوحدة، ومن ثم تحرير الشمال من هيمنتها، تم تعميمها بالقوة على الجنوب..ولتبرير هذا التعميم والتستر على محركه الفعلي ساق التحالف الخماسي عشرات التخريجات للإيحاء بأن دولة الشمال تنتمي إلى المعسكر الغربي الديمقراطي الذي انتصر في الحرب الباردة وأن دولة الجنوب تنتمي إلى المعسكر الشرقي الشمولي الذي هزم..وبالتالي على دولة الجنوب أن تتوارى وعلى دولة الشمال أن تسود..وهذا تبرير مردود عليه لمخالفته اتفاق اعلان الوحدة من ناحية، ولأنه يجافي حقيقة انتماء الدولتين إلى دائرة واحدة هي دائرة البلدان الفقيرة والأقل نموا في العالم وكلتاهما لا تعرفان الديمقراطية..فدولة الشمال لم تكن ألمانيا الغربية، ولا دولة الجنوب كانت الشرقية.    

أزمة الوحدة:

         بعد حرب 1994 أفضت أزمة دولة الوحدة إلى أزمة في الوحدة..لكن الوعي الشعبي لم يكن منذ البداية مدركا لهذا التلازم بين الأزمتين، ولهذا أمكن تضليله بشعارات الوحدة لتسويغ الحرب فتعذر عليه التمييز بين الزعم والحقيقة، والنتيجة أنه بحرب 1994 خسر الشعب اليمني الدولة التي تطلع إليها دون أن يطمئن على مستقبل الوحدة..ولم تكن الثقافة السياسية لدى الأحزاب خارج طرفي الأزمة تدرك هي الأخرى هذا التلازم بين أزمة الدولة وأزمة الوحدة..وحتى تلك التي استنكرت حرب 1994 لم تستنكرها من حيث المبدأ، وإنما لخوفها على الوحدة واعتقادها أن ميزان القوى بين طرفي الحرب سيعيد البلاد إلى ما قبل 22 مايو 1990 وبالتالي ضياع الوحدة..ولذلك رفعت شعارا مائعا: " نحن ضد الحرب وضد الإنفصال " وكأن الحرب قامت من أجل القضاء على إنفصال تم إعلانه، لا من أجل تعميم مركزية إلحاقية مقيتة باسم الوحدة..وعندما انتهت الحرب إلى ما انتهت إليه تنفست هذه الأحزاب الصعداء وذهبت تشارك المنتصر اعتقاده بأن الوحدة تجاوزت الخطر وأصبحت في مأمن..وهذا يفسر لماذا احتاج بعضها إلى وقت طويل كي يستوعب ويتفهم بروز ظاهرة الحراك الجنوبي عام 2007.

         إن حرب 1994 لم تكن دفاعا عن الوحدة وإنما هروب من استحقاقات بناء دولة الوحدة..والكشف عن الأسباب الحقيقية لأزمة 1993 أمر لا ينطوي اليوم على أي عيب ولا يخلو من فائدة كبيرة لمن يهمه أن يرى العلاقة القائمة بين الحرب الراهنة التي تقتل اليمنيين من السماء ومن الأرض وبين حرب 1994..ومن لا يستطيع أن يرى هذه العلاقة لا يستطيع أن يكون جزءا من الحل..بل هو جزء من المشكلة.

دور التجمع اليمني للإصلاح في إرباك المرحلة الإنتقالية:

         في سبتمبر 1990 خرج الإسلاميون من المؤتمر الشعبي العام وأعلنوا أنفسهم حزبا مستقلا تحت مسمى التجمع اليمني للإصلاح..وبحسب مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر تم ذلك على قاعدة التفاهم داخل تحالف الفئات الخمس..حيث هيمنت هذه الفئات على الحزبين اللذين كانا حزبا واحدا قبل إعلان الوحدة وظلت صاحبة الهيمنة في كليهما بعد إعلانها..وبموجب هذا التفاهم أوكلت للتجمع اليمني للإصلاح مهمة إرباك المرحلة الإنتقالية من خارج السلطة يسانده المؤتمر الشعبي العام من داخلها تطبيقا للمبدأ العصبوي:"أنا وأخي على إبن عمي"..ونحن عندما نقول:"إرباك المرحلة الانتقالية" فلأننا نميز بين الإرباك الذي يخلط الأوراق ويضلل الرأي العام وبين مفهوم المعارضة التي لا مصلحة لها في الخلط والتضليل..لذلك لم يكن التجمع اليمني للإصلاح خلال المرحلة الإنتقالية حزبا معارضا للسلطة وإنما كان في جوهره سلطة لبست ثوب المعارضة ورفعت صوتها عاليا لصالح سلطة تحالف الفئات الخمس.

         وقد ذهب هذا الصوت العالي يستميت لإقناع الرأي العام أن الفترة الانتقالية ليست سوى فترة تقاسم ثنائي للسلطة بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام..وأن هذا التقاسم هو المسئول عن الفساد في مؤسسات دولة الوحدة وهو الذي يفسر عدم فاعليتها..والمطلوب هو الذهاب إلى انتخابات تنهي هذا التقاسم.

         والحقيقة أن الفترة الانتقالية كانت على قدر كبير من الأهمية الوطنية فيما يتعلق بإعادة بناء مؤسسات دولة الوحدة وتأهيل هذه الدولة للممارسة الديمقراطية..وهذا أمر لم يدركه التجمع اليمني للإصلاح إلا فيما بعد عندما تحول من سلطة ترتدي ثوب المعارضة إلى معارضة..وهو اليوم يدفع ثمن أخطائه الكبيرة تلك..وإذا كان الاعتقاد السائد لديه أنه لا يدفع إلا ثمن مشاركته الفعالة في ثورة 2011 فمعنى ذلك أن إدراك هذا الحزب لأخطائه الكبيرة مازال أقل من الحد الأدنى المطلوب لنقدها وتجاوزها وعدم تكرارها..وهذا ليس تجنيا عليه وإنما حقيقة أثبتتها أخطاء قياداته النافذة خلال الفترة الانتقالية الأخيرة التي أعقبت الإطاحة بالرئيس صالح..ومثلما أفضت الفترة الانتقالية الأولى إلى حرب 1994 أفضت الأخيرة إلى الحرب الراهنة..ولا يستطيع التجمع اليمني للإصلاح أن يكون جزءا من الحل ما لم يكاشف نفسه وقواعده وجماهيره بخطاياه في الفترة الانتقالية الأولى وأخطائه في الفترة الانتقالية الأخيرة..والفرق بين الخطايا والأخطاء أن الأولى كانت في الغالب قصدية وعن سابق إصرار وترصد، بينما نجمت الثانية عن غياب المشروع وانعدام الرؤية وحضور نزعتي الثأر والاستئثار.

إختزال الشراكة في شقها السياسي واستبعاد شقها الوطني:

          حصدت الأحزاب الثلاثة الكبيرة معظم المقاعد في انتخابات أبريل 1993..وآلت رئاسة البرلمان شكليا للتجمع اليمني للإصلاح وفعليا للتحالف الخماسي، وقسمت الحكومة على ثلاثة بعد أن كانت مقسومة على إثنين وبقيت رئاستها للحزب الاشتراكي..أما مجلس الرئاسة فقد بقي كما هو لخمسة أشهر قادمة ريثما يتم التوافق على تعديلات دستورية تتضمن تغيير شكل رئاسة الدولة من مجلس رئاسي إلى رئيس ونائب أراد علي سالم البيض أن ينتخبا من الشعب في قائمة واحدة، وهو ما لم يقبل به الطرف الآخر وذهب يفسره للرأي العام على أنه تدبير إشتراكي تآمري بنية قتل الرئيس وحلول النائب محله.

         ومن الوهلة الأولى يبدو مطلب البيض هنا غريبا بالنظر إلى أن الرجلين ليسا من حزب واحد..لكن إذا علمنا أن الأمر لا يتعلق بإدارة الدولة فحسب، وإنما بإعادة بنائها على قاعدة الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب سيبدو الجمع بينهما في قائمة إنتخابية واحدة أمرا ضروريا..فالرئيس فيما يتعلق بالشراكة الوطنية شمالي يمثل الشمال ونائبه جنوبي يمثل الجنوب..وهذا وضع إنتقالي نجم عن الذهاب إلى انتخابات نيابية قبل إنجاز مهام الفترة الانتقالية.

         وقد سبق أن بينا أن الشراكة السياسية بين الأحزاب تنصرف إلى إدارة الدولة على قاعدة التنافس الديمقراطي والقبول بمفهوم الأغلبية والأقلية الانتخابية، بينما تنصرف الشراكة الوطنية إلى بناء الدولة على قاعدة التوافق والندية والتكافؤ بين الشمال والجنوب..لكن الذي حدث أن التحالف الخماسي بعد انتخابات أبريل 1993 ذهب يستقوي بالأغلبية العددية في البرلمان لاختزال الشراكة في شقها السياسي مع الحزب الاشتراكي اليمني واستبعاد شقها الوطني مع الجنوب..ومعنى هذا أن بناء مؤسسات الدولة وعلى نحو خاص مؤسستي الجيش والأمن أمر تقرره الأغلبية العددية الشمالية في البرلمان..وكان هذا موضوع خلاف كبير وخطير يدور في كواليس السلطة..ومصدر الخطورة يكمن في أن الأغلبية العددية الشمالية كانت تعبر عمليا عن الإرادة السياسية للتحالف الخماسي وليس عن مصلحة كل أبناء الشمال التي تتطابق بالضرورة مع مصلحة كل أبناء الجنوب

إخراج أزمة دولة الوحدة إلى العلن:

         في أغسطس 1993 وبعد اعتكافين صامتين اضطر علي سالم البيض أن يخرج أزمة الائتلاف الثلاثي الحاكم إلى العلن لإشراك الأطراف الأخرى خارجه في مناقشتها وحلها على قاعدة الحوار الوطني..في البداية أنكر التحالف الخماسي وجود الأزمة وقال إن البيض افتعلها للحصول على مكاسب أكبر من حجم حزبه في البرلمان..والملاحظ على هذه المحاجة أنها أسَّستْ – نظريا على الأقل – لجذر القضية الجنوبية في شقه السياسي..ولمن يتعذر عليه أن يرى الأمر كذلك سنعيد صياغتها على النحو التالي: "إن البيض افتعل الأزمة للحصول على مكاسب أكبر من حجم الجنوب في البرلمان".

         فالبيض لم يخرج الأزمة إلى العلن باعتباره يمنيا يتزعم الحزب الاشتراكي اليمني، وإنما باعتباره جنوبيا قاد الجنوب إلى الوحدة..أي أنه لم يخرجها دفاعا عن الشراكة السياسية للحزب الاشتراكي وإنما أخرجها دفاعا عن الشراكة الوطنية للجنوب..وهو منذ أن خرج عن صمته في منفاه يتصرف كجنوبي خالص، وليس كيمني..ولكي يتصرف كجنوبي إعتذر عن انتمائه إلى الحزب الاشتراكي وعن تاريخه في هذا الحزب..ونحن نتفهم تصرفه هذا على أنه رد فعل سياسي في مواجهة سياسة الإلحاق التي تسوق نفسها بشعارات وطنية تتستر بها على مناطقيتها الضيقة.  

         وإذا علمنا أن الرجل انفرد مع علي صالح في ترتيبات وإجراءات إعلان الوحدة، دون أن ينظر بعين التقدير للمحاذير التي ابداها آخرون في قيادة حزبه، فإنه دون غيره يتحمل مسئولية النتائج التي ستترتب على انفراده مع علي صالح بهذا القرار التاريخي..والنتائج التي جرى تحذير البيض منها أصبحت واضحة له قبل أن يستكمل إعلان الوحدة عامه الثاني، ولم يكن الرجل بحاجة إلى مجهر عملاق كي يراها..وملخصها أن الجنوب واقع لا محالة تحت قبضة المركزية الإلحاقية التي تعاني منها محافظات الشمال..وهذا يراد له أن يتم باسم الوحدة وباسم الديمقراطية التي أفرزت في انتخابات أبريل 1993 أغلبية عددية شمالية..وكأنه على الجنوب أن يدفع ثمن كونه أقلية سكانية لا تملك سوى 20 % من مقاعد البرلمان.

         لقد ذهب الحزب الاشتراكي اليمني إلى الوحدة كشريك سياسي مع غيره من الأحزاب بينما ذهب إليها الجنوب كشريك وطني مع الشمال.. فالجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال..وهو فيما يتعلق ببناء الدولة يتساوى مع الشمال بصرف النظر عن التفاوت في عدد السكان وإلا فلا معنى لذهابه إلى الوحدة إذا كان سيخسر دولته دون أن يكون الثمن دولة أفضل منها يشارك هو في صناعتها ويطمئن على مستقبله في ظلها..ومن البديهيات أن الشراكة الوطنية الفعلية للجنوب في بناء دولة الوحدة تستدعي وتستوجب شراكة وطنية فعلية للشمال بما يحقق لليمنيين دولة مواطنة السيادة فيها للقانون عليها وعلى مواطنيها دون أي تمييز..واستبعاد الشراكة الوطنية للجنوب في إعادة بناء الدولة هو تلقائيا إستبعاد للشراكة الوطنية للشمال وإبقائه تحت هيمنة المركزية الإلحاقية.

التمترس خلف المصالح غير المشروعة على حساب بناء دولة الوحدة:

         إن الشراكة الوطنية للشمال والجنوب غير ممكنة دون تقديم تنازلات لصالح بناء دولة الوحدة..وقد تبين أن الثقافة السياسية لأطراف التحالف الخماسي ترفض التنازل عن المصالح والامتيازات غير المشروعة التي استقرت لها في ظل الجمهورية العربية اليمنية..ورفض التنازلات لصالح بناء دولة الوحدة ينطوي ضمنيا على التضحية بالوحدة التي قامت طواعية على الجمع بينها وبين الديمقراطية..والتضحية بالوحدة والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990 أمر لا يستطيع تحالف الفئات الخمس التنصل من مسئولية حدوثه بالنظر إلى التنازلات التي قدمها الجنوب من أجل الوحدة حين قبل أن تكون صنعاء عاصمة دولة الوحدة وعلي صالح رئيسها..فعلي سالم البيض هو الذي قبل أن يكون نائبا للرئيس في صنعاء، بينما لم يقبل علي صالح أن يكون رئيسا في عدن..فالعاصمة ليست مجرد مدينة وإنما شروط ونمط حياة.

         وما دمنا نتحدث عن خطر التمترس وراء المصالح على حساب بناء دولة الوحدة فلا بأس من مقاربة هذا الخطر بفرضيتين إحداهما خاطئة.

1 - إن رفض الشراكة الوطنية في بناء دولة الوحدة مع الإبقاء على الوحدة أمر مستحيل من منظور السياسة ومنطقها.

2 - إن رفض الشراكة الوطنية في بناء دولة الوحدة مع الإبقاء على الوحدة أمر ممكن من منظور القوة والحرب.

         والذي حدث أن الفرضية الثانية الخاطئة هي التي أغرت التحالف الخماسي فقرر أن يعسكر الأزمة وأن يهيمن على الجنوب عسكريا وأن يخرج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية بواسطة الحرب ويعمم بالتالي نظام الجمهورية العربية اليمنية على كل اليمن..ومن أجل ذلك أنتج خطابا سياسيا وإعلاميا ودينيا يمهد للحرب ويبررها..وفي الوقت نفسه قرر أن يستجيب تكتيكيا لدعوات الحوار ريثما يحقق الجاهزية القتالية التي تحسم الحرب لصالحه.

الخطاب التحضيري  لحرب 1994:

         على صعيد الخطاب لا يهمنا هنا سوى الخطاب السياسي الذي مازالت بعض مقولاته مؤثرة في الثقافة السياسية إلى اليوم..أما الخطاب الديني فقد تكفل به الزمن وصار مخجلا حتى لأصحابه إلا قليلا ممن لا أمل في سويتهم السياسية..ومن بين أهم أطروحات الخطاب السياسي التي نرى أهمية التذكير بها في الحاضر الذي وصلنا إليه نكتفي بما يلي:

1 – القول بأن الحزب الاشتراكي هزم في انتخابات 1993 والنظر إلى نتائج تلك الانتخابات على أنها الكلمة الفاصلة والنهائية في تقرير مصير دولة الوحدة وفق ما يريده التحالف الخماسي باعتباره صاحب الأغلبية الانتخابية والتفويض الشعبي..وهذه الأطروحة نناقشها في ضؤ حقائق الواقع وفلسفة الديمقراطية على النحو التالي:      

أولا: الأغلبية في نتائج انتخابات أبريل 1993 لم تكن أغلبية إنتخابية وإنما أغلبية عددية شطرية ناجمة عن الفارق الكبير في عدد السكان..وبمقدور أي باحث موضوعي أن يعود إلى الأرقام والأسماء التي أفرزتها تلك الانتخابات ليكتشف أن تحالف حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح ظهرا كحزبين شماليين بنسبة 100% تقريبا فيما يتعلق بدوائر الفوز وبنسبة تفوق ال90% فيما يتعلق بالأصوات المحصودة..وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المؤتمر الشعبي العام كان صاحب الهيمنة في الشمال قبل الوحدة وأن نسبة نجاحه في معقله لم تتجاوز 48% من إجمالي دوائر الشمال فبمقدورنا أن نؤكد دون أن نتجاوز الحقيقة أن قيادته نظرت إلى نتائج انتخابات 1993 على أنها صفارة إنذار أتتها وهي في أوج قوتها وفي أعلى مستويات شعبيتها..لذلك عقدت العزم على التخلص من الديمقراطية بواسطة الحرب مستفيدة من تحالفها المتين مع التجمع اليمني للإصلاح الذي كان أكثر حماسا للحرب منقادا وراء إرادة شيخ القبيلة وشيخ المؤسسة الدينية..ولم تكن الحرب في حقيقتها سوى حرب التحالف الخماسي المهيمن على هذين الحزبين ضدا على مصالح قواعدهما وجماهيرهما، وضدا على مصالح الشعب اليمني برمته.

ثانيا: إن الأقلية ممثلة بالحزب الاشتراكي اليمني هي وحدها التي برزت كأقلية إنتخابية من حيث المقاعد التي حازتها والأصوات التي حصدتها..فإذا علمنا أن عدد المقاعد الرسمية التي فاز بها مرشحون باسم الحزب الاشتراكي بلغ 56 مقعدا فإن 65% من هذه المقاعد جاء من الجنوب (أي 36 مقعدا جنوبيا) و35% جاء من الشمال (أي 20 مقعدا شماليا)..كما أن 49% من إجمالي الأصوات التي حصدها الحزب الاشتراكي هي أصوات من الشمال مقابل 51% من الجنوب.

         وإذا علمنا أن الحزب الاشتراكي حصد كل مقاعد الجنوب تقريبا فمعنى ذلك أن المقاعد التي فاز بها إشتراكيون خاضوا الانتخابات في الجنوب كمستقلين بلغ حوالي 20 مقعدا..وإذا أضفنا إلى هؤلاء المستقلين نظراءهم الاشتراكيين في الشمال فإن كتلة الحزب الاشتراكي في برلمان 1993 تتجاوز الثمانين عضوا..ومعنى ذلك أن الحزب الاشتراكي جاء ثانيا في عدد المقاعد بعد المؤتمر الشعبي العام وليس ثالثا بعد التجمع اليمني للإصلاح..كما جاء ثانيا في عدد الأصوات..لكن حجمه في البرلمان قياسا إلى إجمالي دوائر التحالف الخماسي المهيمن على حزبي المؤتمر والإصلاح يضعه في خانة الأقلية..مع تميز هذه الأقلية بأنها انتخابية تغطي معظم اليمن، وليست عددية قاصرة على الجنوب دون الشمال.

ثالثا: إن التصويت لمرشحي الحزب الاشتراكي كان تصويتا لهذا الحزب..بينما كان التصويت لمرشحي تحالف المؤتمر والإصلاح في معظمه تصويتا لشخوص هؤلاء المرشحين..وتفسير ذلك أن مرشحي الحزب الاشتراكي كانوا من أبناء الطبقة الوسطى ولم يكن بينهم مرشح واحد من أهل الوجاهة التقليدية والنفوذ والمال الذين شكلوا معظم قائمة مرشحي تحالف المؤتمر والإصلاح..وتاريخ الممارسة الديمقراطية في العالم يؤكد أن أي برلمان يتألف من أشخاص احتلوا مقاعدهم بحكم وضعهم أو مركزهم الإجتماعي فإن هذا البرلمان غير ديمقراطي..وهذا ينطبق على برلمان 1993 الذي حولته الأغلبية العددية إلى ساحة اقتتال بين طرفي الأزمة ومنعته من الوقوف على الحياد وإجبار الطرفين على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا.

ثالثا: لم يساور الحزب الاشتراكي اليمني أي إحساس بالهزيمة بالنظر إلى أن الانتخابات التي خاضها هي الأولى في ظل الوحدة وأنها تأثرت كثيرا بالصراع الأيديولوجي القديم بين الشطرين وأنه خاضها وحيدا بغير تحالفات في مواجهة تحالف حزبي المؤتمر والإصلاح..والقول بأنه خرج مهزوما في السباق الانتخابي ليس له مصداقية من منظور الديمقراطية ومستقبلها المأمول، وإذا كان له من دلالة فهي تهيئة الرأي العام لتقبل الحرب.

رابعا: تقوم الديمقراطية على مبدأ السيطرة الدورية للناخبين على من يحكمونهم..ومن هنا جاءت فكرة تكرار الانتخابات بصورة منتظمة من أجل المحافظة على الموافقة الشعبية..ولهذا يقال إنه كلما ازداد عدد المرات التي يستشار فيها الشعب إزداد وضوح موافقته ونقاء مبادئ الدولة.

         لكن حرب صيف 1994 حالت دون أن يكرر اليمنيون الإنتخابات النيابية بشروط وحدة 22 مايو السلمية..والذين دفعوا البلاد بإتجاه تلك الحرب أسسوا شرعيتها على أغلبيتهم العددية في البرلمان، ونظروا إلى تلك الأغلبية على أنها الكلمة الأخيرة والنهائية للشعب اليمني..وكانت النتيجة إنتكاسة حقيقية للديمقراطية الناشئة في اليمن.

2 – القول بأنه ليس من حق الحزب الاشتراكي بعد انتخابات 1993 أن يدعي تمثيل الجنوب.

         وهنا نطرح السئوال التالي: إذا كانت انتخابات 1993 قد أظهرت حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح كحزبين شماليين فكيف تسنى لهما أن يحاججا بهذه الأطروحة التي تصادر على الحزب الاشتراكي حق التحدث باسم الجنوب وهو الذي حكم الجنوب وقاده إلى الوحدة وحصد كل مقاعده في الانتخابات؟.والإجابة على هذا السئوال تكشف عن حقيقة ظلت مستورة إلى اليوم.

          فمما لا يعلمه كثيرون أن مجموعة من السياسيين الذين غادروا الجنوب مع علي ناصر محمد بعد أحداث يناير 1986 وعلى رأسهم المرحوم علي عبد الرزاق باذيب أرادوا تأسيس حزب سياسي لمنافسة الحزب الاشتراكي في انتخابات 1993 في الجنوب لاعتقادهم أنهم وحدهم المؤهلون لهذه المنافسة بحكم جنوبيتهم، واعتقدوا أن علي صالح سيرحب بهذه الخطوة وسيمد لهم يد العون..لكن الرجل اعتبر تأسيس حزب كهذا من المحرمات، وقال لهؤلاء ليس أمامكم سوى الانخراط في المؤتمر الشعبي العام لأن المقام هو مقام إضعاف القوي ( الطرف المنتصر في أحداث يناير 1986) وليس مقام تقوية الضعيف (الطرف المهزوم في تلك الأحداث)..فعلي صالح كان ينظر إلى الحزب الاشتراكي كمشكلة يجب التخلص منها..والسماح بتأسيس حزب آخر يعني بالنسبة لما يخطط له خلق مشكلة موازية..وقد فهم هؤلاء رسالة علي صالح جيدا وانقسموا حولها إلى مجموعتين إحداهما رفضت الصفقة واختارت العودة إلى الحزب الاشتراكي، والثانية رأتها فرصة ذهبية سانحة لاستثمار حاجة علي صالح الماسة لوجوه سياسية من الجنوب فالتحقت بقيادة المؤتمر الشعبي العام لإضفاء الطابع اليمني على هذا الحزب الذي أظهرته انتخابات 1993 حزبا شماليا خالصا..أما علي باذيب نفسه فقد اختار أن يعتزل السياسة حتى توفاه الله.

         والخلاصة أن علي صالح اعتبر الجنوب ممثلا في حزبه بأسماء جنوبية معروفة أغدق عليها من المال العام بسخاء وضمها لحسابه في التحالف الخماسي وقلد بعضها مناصب في الحكومة..وبالتالي لم يعد من حق الحزب الاشتراكي الذي قاد الجنوب إلى الوحدة أن يحتكر تمثيل الجنوب، فالمؤتمر الشعبي العام يمثل الجنوب ومن حقه أن يقرر باسم الجنوب ما يريد بما في ذلك إعلان الحرب عليه لتحريره من الحزب الاشتراكي..والأنكأ من هذا أن علي صالح لم يكتف بهذا وإنما ذهب ينقب في صراعات الجنوب ما قبل الاستقلال..كل هذا كي لا يعترف للحزب الاشتراكي بحق تمثيل الجنوب ولكي يخرجه من الحياة السياسية بالقوة العسكرية..وإذا أردنا أن نفسر هذه القدرة على التلاعب والمناورة فعلينا أن نفتش في الأسس التي قامت عليها الوحدة وانفراد علي البيض وعلي صالح بقرار إعلانها.

3 – القول بأن الحزب الاشتراكي اليمني حزب إنفصالي وأنه هرب إلى الوحدة تكتيكيا ليتجنب المصير الذي لقيه تشاوشيسكو في رومانيا وأنه الآن يخطط للعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990.      

         كانت هذه الأطروحة إعلانا صريحا لحرب 1994 باسم الوحدة..ورغم ذلك تكررت بهذا الشكل أو ذاك داخل مؤتمر الحوار الوطني في موفنبيك ردا على مقترح الإقليمين الذي تقدم به الحزب الاشتراكي..فالبعض فسَّر هذا المقترح على أنه تدبير إشتراكي يمهد لإنفصال الجنوب فيما بعد عبر الاستفتاء الشعبي على بقائه في إطار الوحدة أو فك ارتباطه بها..ويعتقد هذا البعض أن الشعب في الجنوب سيصوت بالضرورة لصالح فك الارتباط..وبالتالي فالاستفتاء من المحرمات الوطنية..أما لماذا يفكر هذا البعض بهذه الطريقة؟ فلأنه لا يرى العلاقة الجدلية بين الوحدة ودولة الوحدة وأن عافية الأولى مشروطة بعافية الثانية وديمقراطيتها وحداثتها..باختصار: لا يؤمن هذا البعض بأن أزمة الوحدة هي نتيجة طبيعية لأزمة دولة الوحدة..وبما أنه لا يملك مشروعا وطنيا لبناء دولة الوحدة فإن دفاعه عن الوحدة يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية..والتفكير العقلاني يستبعد تماما أن تكون هناك وحدة مجانية كما لو كانت غاية مطلوبة لذاتها..ومن لا يقبل بمبدأ الدولة مقابل الوحدة فإن دفاعه عن الوحدة دفاع غير مستقيم وطنيا.

         والملفت للإنتباه أن أي حديث عن الإنفصال في الشمال يشير دائما إلى الجنوب كما لو كان الانفصال صناعة جنوبية..وهذا ليس له أي تفسير سوى حضور المركزية الإلحاقية في اللاشعور السياسي حتى عند كثير من الشماليين المصنفين من ضحاياها..وهذه المركزية الإلحاقية هي فقاسة التجزئة طوال مراحل التاريخ اليمني..وهي التي عبر عنها عبد الملك الحوثي بعد اجتياح العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014 أيما تعبير عندما وصف مشروع الدستور الجديد بأنه مؤامرة أجنبية لتفتيت اليمن إلى ستة أقاليم متصارعة وأنه لن يسمح لهذه المؤامرة أن تمر..والحقيقة أن كلام الحوثي هذا ليس إلا إخراج مخادع لنص مدون في اللاشعور السياسي منطوقه الحرفي هكذا: " لن نسمح لأي أحد المساس بالمركزية الإلحاقية التي تمنحنا وضعا مهيمنا على كل اليمن أو على شماله في أسوأ الأحوال".

         إن الوحدة اليمنية غير ممكنة بدون دولة لكل اليمنيين..وهذه الدولة غير ممكنة دون الطلاق مع المركزية الإلحاقية التي لا تنتج سوى الحروب والأزمات المستدامة..والجنوب لا يرفض الوحدة لكنه يرفض المركزية الإلحاقية ولن يقبل بها وسيقاومها وسيذهب في مقاومته لها إلى آخر الدنيا..وهذه حقيقة أنتجها تفاعل الجغرافيا والتاريخ الذي أفضى إلى يمنين سياسيين داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد، ولم ينتجها الحزب الاشتراكي اليمني الذي قاد الجنوب إلى الوحدة..فيمنية هذا الحزب لا تلغي جنوبية الجنوب ولا شمالية الشمال.

         ومن باب الإنصاف وتسمية الأشياء بأسمائها علينا أن نشير إلى ميزة ينفرد بها الحزب الاشتراكي اليمني عن غيره من الأحزاب اليمنية وهي أنه تأسس منذ البداية على مشروعية وطنية عابرة للحدود السابقة بين الشمال والجنوب، ولم يتأسس على مشروعية سياسية قاصرة على الجنوب دون الشمال أو على الشمال دون الجنوب..ومشروعيته الوطنية هذه هي المكون الجوهري في بنيته إلى درجة لا يستطيع معها أن يكون جنوبيا خالصا ولا شماليا خالصا..أي أن حظه في البقاء كحزب سياسي على قيد الحياة مشروط بوحدويته..وعليه فإن اتهامه بالتخطيط لانفصال الجنوب لا يعبر عن فهم لحقيقة هذا الحزب بقدر ما يعبر عن الكراهية له بدوافع أيديولوجية في الغالب..وأي متابع للشأن اليمني لن تتعذر عليه ملاحظة أن هذا الحزب غير مقبول عند من يتمسك بالمركزية الإلحاقية في الشمال، ولا عند من يريد العودة بالجنوب إلى ما قبل 22 مايو 1990.  

         والمشروعية الوطنية للحزب الاشتراكي مصدرها الحركة الوطنية اليمنية..فهو المصب الذي التقت داخله روافد هذه الحركة من الشمال والجنوب..والوحدة اليمنية هي محور ومرتكز هذه المشروعية..وليست نتائج انتخابات أبريل 1993 بالنسبة للحزب الاشتراكي مجرد مصادفة وإنما هي تعبير بالأرقام عن المشروعية الوطنية لهذا الحزب.

          وإذا علمنا أن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة وليس بين جهتين في الجغرافيا فإن إنعكاسات هذه الحرب على قضية الوحدة اليمنية تؤكد المشروعية الوطنية للحزب الاشتراكي أيما تأكيد..فقد تجاوزت أضرار تلك الحرب الحزب الاشتراكي واستطالت لتنال من المشروعية الوطنية للوحدة نفسها..فالعلاقة بين حالة هذا الحزب وحالة الوحدة هي علاقة تناسب طردي..وحالة الوحدة متغير تابع لمتغير آخر هو حالة الدولة..وبالتالي لا مصداقية أبدا لمن يتمسك بالوحدة ولا يقبل بدولة حديثة لكل مواطنيها..فالوحديون الحقيقيون هم أولئك الذين يسعون لبناء هذه الدولة، والإنفصاليون الحقيقيون هم أولئك الذين يضعون العقبات في طريقها..وليست الأقاليم الستة التي جرى تمريرها في لجنة الأقاليم، وانطلت على البعض، إلا واحدة من هذه العقبات التي استثمرت لصب الزيت على نار الحرب الراهنة كما سنبين لاحقا.

         أما لجنة الأقاليم نفسها فلم تكن سوى حيلة للهروب من مناقشة مقترح الحزب الاشتراكي داخل مؤتمر الحوار الوطني..وهي الحيلة التي أضعفت قرار الستة أقاليم وجعلت مشروعيته محل طعن، ومن غير المستبعد أن يعاد النظر فيه من جديد..وعلى افتراض أنه اتسم بالتوزيع الأفضل فإن آلية إقراره كانت سلطوية وليست حوارية توافقية..والثقافة السياسية الديمقراطية تعتد بسلامة الإجراءات والآليات أكثر من اعتدادها بالقرارات..بينما نحن اليمنيين تعودنا أن نسلك مسلكا معاكسا يجعل أفضل القرارات عرضة للطعن والتشكيك.

من الحوار إلى حرب 1994:

          إعترف التحالف الخماسي تكتيكيا بالأزمة التي أخرجها البيض إلى العلن في أغسطس 1993..وعلى مضض جلس ممثلوه على طاولة الحوار مع كل الأطراف الأخرى، وتمخض الأمر عن وثيقة لبناء الدولة عرفت ب"وثيقة العهد والاتفاق"..لكن المتحاورين وقعوا على الوثيقة دون أن يتوافقوا بالتوازي معها على آليات التنفيذ التي تتجاوز من حيث الأهمية الوثيقة نفسها..ولهذا رأينا أثناء مراسم التوقيع في العاصمة الأردنية عمان أن علي صالح اعتبر التوقيع منهيا للأزمة وعلى هيئات الدولة أن تلتئم في صنعاء لمباشرة التنفيذ..أي أن الآلية التي اقترحها صالح لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق هي مجلس الرئاسة والحكومة ومجلس النواب..وكل واحدة من هذه الهيئات كانت عمليا ساحة صراع بين إرادتين متعارضتين فيما يتعلق بالموقف من مسألة بناء مؤسسات دولة الوحدة وبالأخص مؤسستي الجيش والأمن..بينما علي البيض اعتبر التوقيع مجرد اعتراف بالأزمة التي كان الطرف الآخر ينكرها..ومن أجل عودة ممثلي الحزب الاشتراكي من عدن إلى صنعاء إشترط البيض تقديم المتهمين بحوادث الاغتيالات السياسية إلى العدالة لإثبات حسن النية..وكانت تلك الاغتيالات قد طالت حينها نحو 150 من قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني.

         وبينما كانت لجنة حوار القوى السياسية تعكف على مناقشة الآلية المناسبة لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق كان التحالف الخماسي قد حدد عمليا ساعة الصفر دون أن يعلن عنها وبدأ بتصفية معسكرات الجيش الجنوبي المرابطة في الشمال بعيدا عن مناطق إمدادها، وعندما تم له ذلك أعلن الحرب الشاملة وأطلق جيوشه من مرتفعات الشمال لتلتحم مع تلك التي موضعها اتفاق الوحدة في سهول الجنوب..وقد استطاع هذا التحالف أن يخدع معظم الرأي العام في الشمال عندما أدار حربه تحت شعارات الوحدة وقدمها كحرب بين وحدويين وإنفصاليين، فضلا عن ترسانة الشعارات والفتاوى والخطب الدينية..وهو بهذا كان يهدف إلى إخراج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية وإنهاء وجوده ماديا ومعنويا..ولم يكن بمقدور الحزب الاشتراكي أن يخرج من بين أنقاض تلك الحرب لولا أصالة مشروعيته الوطنية التي حمته من المصير الذي أراده له التحالف الخماسي..ومع الوقت كشفت نتائج الحرب وانعكاساتها على الوحدة زيف تلك الشعارات وأظهرت بجلاء أنها كانت أكثر الحروب قذارة في تاريخ اليمن..ولولاها لما وصل اليمنيون إلى الوضع المأساوي الذي هم عليه اليوم حيث الموت والدمار والحصار يلاحقهم من السماء ومن الأرض..ومن لا يستطيع أن يرى مقدمات حرب 2015 في حرب 1994 لا يستطيع أن يكون جزءا من الحل لا في الرياض ولا في جنييف ولا في صنعاء ولا في أي مكان على كوكب الأرض.

قراءة 2852 مرات آخر تعديل على الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 01:11

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة