الشريعة الإسلامية..عقيدة سياسية دنيوية وليست قوانين إلهية

الإثنين, 19 أيار 2014 19:35
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

العلاقة بين الدولة المدنية وبين شعار "تطبيق الشريعة الإسلامية" علاقة تناسب عكسي..فعندما تكون الدولة المدنية غائبة على مستوى الواقع  يعمل شعار " تطبيق الشريعة" على تكريس غيابها على مستوى الوعي..وإذا غابت هذه الدولة على مستوى الوعي فإن هذا الشعار يقاوم حضورها على مستوى الواقع..وهذا ليس لأن الدولة المدنية كافرة بالشريعة،وإنما لأن الشريعة ليست من جنس هذه الدولة..وبما أن الشريعة متجذرة في الوجدان الجمعي والدولة المدنية غريبة عليه فإن هذا الوجدان سيتعاطف مع المتجذر ضد الغريب..وأي محاولة للتوفيق أو الجمع بينهما ستفضي عندنا بالضرورة إلى نفي مدنية الدولة..والنتيجة التي ستترتب على ذلك هي تكريس دولة غير مدنية لتجانس الشريعة..وشرط تحقيق هذا التجانس هو انتماء الدولة إلى عصر الشريعة..وهذا العصر ليس إلا عصر الإيمان.

         لكن عصر الإيمان غادر حلبة المسرح على صعيد عالمي منذ القرن السادس عشر الميلادي..وإذا بقي له حضور قوي عندنا فإن عصري العقل والعلم لهما أيضا حضور بفعل العولمة التي تحولت معها الكرة الأرضية إلى قرية كونية صغيرة..والحضور المتزامن لثلاثة عصور في مجتمع واحد يجعل منه مجتمعا إنتقاليا من الأدنى إلى الأعلى، وليس العكس..وإذا كان المجتمع انتقاليا فإن الدولة المعبرة عن نظامه وانتظامه هي الأخرى إنتقالية، ومصيرها أن تصبح دولة مدنية..لكن وتيرة هذا الانتقال يحددها ميزان القوى بين ممثلي العصور المتزامنة..وأصحاب شعار "تطبيق الشريعة" هم من الناحية الذهنية ممثلو عصر الإيمان في المجتمعات العربية..وهذا لأن عقلهم واقع تحت سلطة النظام المعرفي لذلك العصر..وبما أنهم من الناحية الواقعية يعيشون في عصر العلم ويرون مأثرته على صعيد الدولة المدنية في الغرب المعاصر فمن الصعب عليهم أن يستمروا على خطابهم القديم الرافض لهذه الدولة جملة وتفصيلا..لذلك ما أن انتهت الحرب الباردة وتغيرت ملامح النظام الدولي تغير خطابهم..غير أن التغيير اقتصر فقط على الكم دون الكيف وبقي الخطاب محافظا على قدامته بعد تطريزها ببعض مفردات الحداثة السياسية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان.

         إن الجمع بين الدولة المدنية والشريعة الإسلامية لا وجود له إلا على مستوى الخطاب السياسي لبعض دعاة " تطبيق الشريعة " الذين يعتقدون أن الدولة المدنية هي تلك التي لا يحكمها العسكر..أما نفي الشريعة للدولة المدنية فمن المتعذر على أي عقل أن يتصوره ما لم يكن مدركا لماهية الشريعة التي لا تقبل المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء – على سبيل المثال -، وماهية الدولة المدنية التي لا تستطيع أن تكون مدنية بغير هذه المساواة..غير أن الأمر أكثر خطورة إذا علمنا أن الدولة المدنية دولة حاضنة للسلطة وراعية لها، بينما السلطة في الدولة غير المدنية تستحوذ على الدولة وتصادرهاوتعاديها..وشعار " تطبيق الشريعة " هو من شعارات السلطة وليس من شعارات الدولة..فالشريعة سلطة جاهزة مذهبية بالضرورة لا تعطي دولة لكل مواطنيها، وإنما تعطي سلطة مصادرة للدولة هي سلطة أصحاب الشعار..والدليل على ذلك أنهم لا يتحدثون عن صلاح الدولة كشرط لإنتاج القوانين وتطبيقها، وإنما يتحدثون عن شريعة جاهزة كشرط لصلاح الدولة..فالدولة الصالحة عندهم هي تلك التي تطبق الشريعة وتحرسها وتحميها..وليس لهذا أي تفسير سوى أن الشريعة هنا تقدم كسلطة جاهزة سابقة على الدولة ومتعالية عليها..والتعالي هنا هو مصادرة مضمرة للدولة.

         إن الشريعة الإسلامية التي يراد لها أن تتعالى على الدولة هي عمليا شريعة المسلمين في عصر الإيمان، وليست شريعة الله في كل العصور..إنها شريعة وضعية ذات مرجعية دينية..وهي شريعة مذهبية دائما..والذي فرض هذه المرجعية على دولة عصر الإيمان هو عصر الإيمان نفسه، وليس الله..والمسلمون في ذلك العصر لم يكونوا بدعة من دون سائر الأمم التي خضعت لشرائعها المستمدة من أديانها.

         إن النص الدستوري على مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر لكل القوانين لا يضمن صلاح الدولة ونظامها السياسي، وإنما العكس هو الصحيح..فصلاح الدولة ونظامها السياسي هو الذي يضمن تطبيق القوانين الصادرة عن البرلمان باعتباره ممثلاً للشعب، وليس ممثلاً لرجال الدين..والتجربة العيانية الملموسة في اليمن شمالا وجنوبا تنهض كأقوى دليل على ذلك..ففي الجنوب كانت الدولة صراحة دولة الحزب الاشتراكي الحاكم..ما يعني أنها لم تكن دولة مدنية بالمعنى الذي نتحدث عنه اليوم، وإنما كانت سلطة مستحوذة على الدولة ومصادرة لها..وكل عيوبها تكمن في هذا الاستحواذ وفي هذه المصادرة، وليس في غياب المرجعية الدينية لقوانينها.

         وفي الشمال حضرت المرجعية الدينية للقوانين، لكن الدولة غابت لتحضر السلطة المستحوذة عليها، سلطة تحالف شيوخ الجيش وشيوخ القبيلة وشيوخ المؤسسة الدينية..وعندما توافق اليمنان على الوحدة وذهبا إليها في 22 مايو 1990 أعاد التحالف الثلاثي توزيع الأدوار بين أطرافه وأشهر شعار "تطبيق الشريعة" في وجه الدولة الوليدة التي لم تكن في بدايتها سوى حاصل جمع ميكانيكي لسلطتي الشمال والجنوب على أمل التحول التدريجي إلى دولة مدنية..وحينها تحول الشعار إلى زوبعة غيَّرت مسار التحول التدريجي نحو الدولة باتجاه حرب 1994 التي أعطتنا دستورا بالمواصفات التي أرادها أطراف التحالف الثلاثي..فماذا كانت النتيجة؟

         لم يعطنا دستور حرب 1994 المؤسلم مذهبيا دولة صالحة ولا نظاما سياسيا ديمقراطيا، وفي ظله شهدت اليمن فسادا لم تشهده من قبل، فضلا عن الترسيم المشبوه والجائر لحدود البلاد، ومشروع توريث الحكم وحروب صعدة، والقضية الجنوبية، والإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان...الخ..والقول إن طريقة إدارة علي صالح لنتائج الحرب هي سبب كل ما حدث، وإن أصحاب الشعار أبرياء مما حدث، قول لا يصمد أمام أية أسئلة يثيرها طالب مبتدئ في علم السياسة..فالسياسة الحديثة لا تعوِّل على صلاح الحاكم، وإنما على صلاح منظومة مؤسسات الدولة..وفي الدولة الحديثة لا يوجد حاكم صالح وإنما توجد مؤسسات تجبر الحاكم على الصلاح في أقواله وأفعاله وتصرفاته وفي إدارته للشأن العام.

         إن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" يريدون في عصر العلم دولة عصر الإيمان بصيغتها المذهبية، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا..ونحن لا نقول هذا تجنيا، وإنما عن وعي ومعرفة بما يريدون من الناحية العملية..أما الضمائر فلا يعلمها إلا الله..وبمقدور القارئ اللبيب أن يتعرف فيما يلي على الدولة الإسلامية التي يريدها أصحاب هذا الشعار الكارثي:

1 -  يمكن النظر إلى الدولة من حيث موقعها في الخارطةالدينية للعالم بصرف النظر عن نموذج الحكم وطبيعة الفئة الحاكمة ونوع القوانين المطبقة..وعلى هذا الأساس يصح أن نقول:" فرنسا والمملكة المتحدة دولتان مسيحيتان، وتركيا والسعودية وإيران دول إسلامية، وإسرائيل دولة يهودية، واليابان دولة بوذية "..وباستثناء السعودية وإيران اللتين تطبقان قوانين الشريعة فإن كل هذه الدول علمانية..والمعروف أن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" لا يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى الذي يتسع للعلمانية، كما هو الحال في تركيا..كما لا يوجد بينهم من يجاهر بتبنى النموذج السعودي أو الإيراني للدولة..إذن هم لا يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى، سواء طبقت الشريعة أم لم تطبق.

2 -يمكن النظر إلى الدولة من حيث هي نظام في الحكم لا يقبل بالتعددية الحزبية والسياسية، وإنما بالواحدية السياسية..والمقصود هنا سيطرة الحزب السياسي الذي يستمد برنامجه الاجتماعي من الإسلام أو يجعل الإسلام مرجعا وحيدا في القيم العامة التي يستلهمها.

         والمعروف أن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" لا يجاهرون بأنهم يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى..ولا أحد اليوم يقبل بدولة الحزب الواحد، سواء كانت دولة الحزب الإسلامي أو دولة الحزب العلماني، وسواء طبقت قوانين الشريعة الإسلامية أو غيرها من القوانين.

3-  يمكن النظر إلى الدولة من حيث نمطها المشيد وبنيتها الداخلية..أي الدولة التي تمارس السلطة بطريقة معينة تختلف كليا عن النماذج المعروفة في العالم المعاصر، سواء فيما يتعلق بإنتاج السلطة العليا أو توزيعها، أو تكوين السلطة التشريعية، أو تطبيق القوانين..وفي هذه الحالة يمكن القول بأن نموذج الدولة الإسلامية التي يريدها أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" يختلف عن غيره من النماذج المعروفة بما يلي:

1 – الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع المدني، بما في ذلك في الميدان السياسي.

2 –الحاكم يتم اختياره بواسطة البيعة المرتبطة بأهل الحل والعقد.

3 – خدمة الإيمان وإعداد المواطنين للآخرة هو أهم وظائف الدولة.

4 – الدولة ترعى المصالح البشرية الدنيوية من وجهة نظر المصالح الأخروية.

5 – تعميم الطابع الإسلامي، الثقافي والديني، على الدولة، أسوة بالمجتمع.

         الواضح أن الشريعة الإسلامية في هذه الدولة ليست مجرد قوانين يراد تطبيقها، وإنما عقيدة سياسية وبرنامج عملي يراد منا جميعا أن نقبل به، بحجة أن الشعب كله مسلم، ما لم فسيف التكفير مسلط على رقابنا.

         إن الدولة بهذا المعنى هي الدولة التي يريدها دعاة "تطبيق الشريعة الإسلامية"..إنهم إذاً لا يسعون إلى المشاركة في الحكم وتداول السلطة سلميا مع غيرهم، كما يزعمون ويتظاهرون في القول..إن ما يسعون إليه هو إعادة بناء الدولة ذاتها والإطاحة بالتوازنات التي تمنعها من استيعاب عقيدتهم السياسية التي يروجون لها تحت شعار "تطبيق الشريعة"..وهذا توجه خطير إذا قالوا به صراحة فهو إعلان حرب..وإذا لم ينكروه صراحة فهو ما يعملون من أجل تحقيقه فعلا ما داموا مصرين على فرض شريعة دولة عصر الإيمان على الدولة في عصري العقل والعلم..لذلك سيظل أصحاب هذا الشعار يثيرون الزوابع في طريق بناء الدولة المدنية..ونقاط الخلاف الأساسية بينهم وبين دعاة الدولة المدنية تكمن فيما يلي:

1 – إنهم يطابقون بين الدين وبين الشريعة..ودعاة الدولة المدنية يرفضون هذه المطابقة، لأن الدين من عند الله والشريعة فقه ناجم عن اجتهاد بشري تاريخي مشروط بزمانه ومكانه.

 2 – إنهم يريدون من الدولة المدنية أن تكون دولة الله ودولة الإسلام..ودعاة الدولة المدنية يعتبرونها دولة المسلمين  باعتبارهم مواطنين بصرف النظر عن حظهم من الإيمان والقبول عند الله في الآخرة..فالله يحاسب الناس على النوايا والسرائر، والدولة المدنية تحاسب مواطنيها على ظواهر أعمالهم.

3 – إنهم يعتبرون السيادة الشعبية مقولة أيديولوجية لنفي سيادة الله على اليمن..ودعاة الدولة المدنية يعتبرون سيادة الله شاملة على الكون كله..أما السيادة الشعبية فهي نظام إجرائي لتحصيل الإجماع في ظروف وممكنات ومتاحات العصر الحديث، والتغلب على الاختلاف في التأويل داخل أبناء العقيدة الواحدة.

4 – إنهم يختزلون مفهوم المواطن في البعد الديني الثابت (كلنا مسلمون) ويعتبرون الأغلبية الشعبية مفهوما ثابتا وقابلا للإحتكار في واقع راكد..ودعاة الدولة المدنية يرفضون اختزال المواطن في البعد الديني الثابت ويعتبرون الأغلبية الشعبية مفهوما متحركا يغير اتجاهاته بشأن القضايا التي يثيرها دائما واقع متجدد (كلنا مواطنون)..لذلك لا توجد أغلبية سياسية دائمة ولا أقلية سياسية دائمة، وإنما توجد أغلبية طائفية دائمة وأقلية طائفية دائمة.

5 – إنهم – من حيث يعلمون أو لا يعلمون - يتصورون الله كائنا سياسيا له أجندة يريد أن يحققها بواسطة الدولة..ولأن الله لن يدير الدولة بنفسه فهم الذين سيتصرفون نيابة عنه (كهنوت)..أما دعاة الدولة المدنية فينزهزن الله ويعتبرونه قوة خالقة للكون ومفارقة له ومتعالية عليه.

6 – إنهم يعتبرون عدم النص على المرجعية الدينية للتشريع كفرا إذا لم يقفوا ضده في الدنيا فسيحاسبهم الله على تخاذلهم يوم القيامة..ودعاة الدولة المدنية عندما يسمعون هذا القول يستحضرون قول فرعون (أنا ربكم الأعلى – لا أريكم إلا ما أرى...)..والفارق أن الفرعون القديم قال قولته في عصر كان فيه الناس عبيدا، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وكانت الحرية فوق طاقتهم العقلية والأخلاقية على تخيلها..أما الفرعون الجديد فليس بمقدوره أن يدعي الربوبية لعلمه أن مثل هذا الإدعاء لن يمر بسلام، لذلك تراجع خطوات إلى الخلف وقرر أن يتواضع مدعيا أنه مفوض عن الإله، وليس إلها..ولكن: من أعطاكم هذا التفويض؟.والجواب: "نحن علماء نعلم ما لا تعلمون"..لا لا لا لا..أنتم رجال دين ولستم علماء..أنتم كهنوت يحوز على معرفة..وليس كل معرفة علم..وليس أصحاب كل معرفة هم بالضرورة علماء.

         باختصار شديد: نحن أمام ظاهرة فرعونية تريد أن تستعبدنا في زمن الحرية..ومعيار استحقاقنا للحرية هو قدرتنا الذهنية على رؤية الفراعنة الجدد وإصرارنا على إنزالهم من ألوهيتهم المزعومة وإعادتهم إلى وضعهم الطبيعي كبشر وكمواطنين لا فرق بينهم وبيننا أمام القانون..أما إذا تعذر علينا رؤيتهم ذهنيا فنحن عبيد لا نعلم أننا عبيد..والدولة المدنية لا يصنعها عبيد، وإنما مواطنون أحرار.

قراءة 1907 مرات آخر تعديل على الإثنين, 19 أيار 2014 22:50

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة