تحديات أمام بناء الدولة المدنية "الخلط بين الدولة والسلطة"

الإثنين, 01 أيلول/سبتمبر 2014 17:14
قيم الموضوع
(2 أصوات)

 

الدولة إما قديمة أو حديثة..وبينهما تقع الدولة المنقولة..والمسمى الأخير محدود التداول وليس مفهوما شائعا..أما القديمة فهي دولة القرون الوسطى، وآخر تجلياتها عالميا إمبراطورية النمسا - المجر والإمبراطورية الروسية والخلافة العثمانية، ومحليا دولة الإمام يحي..والحديثة هي الدولة المدنية الديمقراطية في الغرب المعاصر واليابان، وتلك التي سارت على غرارها في كوريا الجنوبية وتركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا بعد الأبارتيد..أما الدولة المنقولة فهي تلك التي أخذت عن الدولة الحديثة هياكلها من حيث الشكل، مع محافظتها على عناصر القدامة من حيث المضمون..فالمدرسة حديثة، لكنها تقدم تعليما قروسطيا وتفكر نيابة عن التلاميذ ولا تعلمهم طرائق التفكير العقلاني المستقل..والجيش حديث في هيكليته وعتاده ومسمياته، لكن بنيته قبلية أو طائفية وولاءاته ما دون وطنية..والأحزاب تشبه نظيراتها في الدول الديمقراطية، لكنها في الحقيقة "قبائل عصرية" إذا جاز التعبير..فهي، وليس الدولة، مركز الولاء بالنسبة لأعضائها الذين يحتشدون كالقطيع تحت راية أيديولوجية توهمهم بأنهم الجماعة الأنقى والأطهر والأشرف والأصلح..وقس على ذلك بقية الهياكل.

         ودول العالم العربي بعد الحقبة الاستعمارية نماذج للدولة المنقولة، على مابينها من اختلافات في الدرجة، وليس في النوع.

         والجمهورية اليمنية دولة منقولة في معظم مظهرها وقديمة في معظم جوهرها..والاتساق بين المظهر والجوهر يكاد أن يكون منعدما، لأن الأول ليس من جنس الثاني، والثاني ليس من جنس الأول..وليس من باب الظرافة إطلاق الكاتب الصحفي الفقيد عبد الحبيب سالم مقبل على البرلمان مسمى "ديوان الشيخ" في إشارة إلى الراحل عبد الله بن حسين الأحمر الذي كان حينها رئيسا للبرلمان دونما أي مؤهل يضعه على رأس مؤسسة من هذا القبيل سوى وضعه الاجتماعي كشيخ لقبيلة حاشد ذات الحضور العصبوي الكبير في الدولة.

         ومادام الأمر كذلك فطريق اليمنيين إلى الدولة المدنية مكتظ بالتحديات..ولكي نتعرف على هذه التحديات يلزم أولا أن تكون لدينا فكرة عن الدولة المدنية نفسها..ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعرف على بعض سماتها الأكثر بروزا، وهي كما يلي:

1 -الدولة المدنية دولة سياسية وليست أيديولوجية، ودستورها عقد سياسي وليس عقدا فكريا أو عقائديا..وبدون هذا لن يكون بمقدورها أن تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها المنتمين إلى أفكار وعقائد ومذاهب وطوائف وأعراق مختلفة..فحيادها تجاه هذا التنوع هو الذي يضمن قدرتها على توحيد المجتمع وضمان تماسكه الداخلي كجماعة وطنية واحدة.

2-الدولة المدنية دولة الأمة ودولة للأمة..وهي وحدها مركز الولاء الوطني، وليس العقيدة الدينية أو الطائفة أو الجماعة العرقية أو القبيلة أو الحزب السياسي أو أي شيء آخر من هذا القبيل..فالمواطنة هنا تقوم على ولاء المواطنين لدولة واحدة وقانون واحد مع حق التباين في الاعتقاد..وبدون هذا يتعذر الحديث عن رابطة وطنية جامعة.

3 -الدولة المدنية دولة قانونية يمكن إتهامها..فهي تخضع للقانون لتتساوى مع مواطنيها في هذا الخضوع..والقانون في هذه الدولة – وليس الضمير - هو أداة السياسة..والعلاقة بين المواطنين تصبح علاقة حقوقيقة وقانونية..والقانون هو الذي ينتصر في أي خصومة أو خلاف، وليس الأفراد.

4 -الدولة المدنية هي دولة الحرية..وموضوع السياسة فيها هو تنمية وإدارة الحرية، وليس تنمية وإدارة مشاعر الإيمان..فالإيمان وتنميته وإدارة مشاعره يصبح من اختصاص الاجتماع المدني، وليس من مهام الدولة..وبدون هذا الإجراء لا تستطيع الدولة أن تكون لكل مواطنيها على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم.

5 -الدولة المدنية دولة ديمقراطية كل فرد فيها هو مصدر للسلطة..وشوكة الدولة لا تقوم على التعالي فوق المجتمع، وإنما على التنازل عن سيادتها لمواطنيها دوريا من خلال الاقتراع العام.

6 - الدولة المدنية دولة مواطنة..ومعنى ذلك أن المشترك القرابي الجامع لكل المواطنين هو الوطن والخضوع لقانون عقلاني واحد، وليس العقيدة الدينية..وفي هذه الحالة يصبح الاجتماع المدني اجتماعا سياسيا، وليس اجتماعا دينيا..فالمجال السياسي هو المجال العام للمواطنين، بينما المجال الديني هو المجال الخاص للمتدينين..والدولة تحمي المجالين معا.

7 -الدولة المدنية دولة مساواة..فالناس في هذه الدولة متساوون في القيمة والدور والمكانة، بصرف النظر عن المعتقد والعرق والجنس.

8 -الدولة المدنية دولة تضامن مجتمعي السياسة فيها تعمل على حل مشكلة التفاوت بين المواطنين بتحويل الدولة إلى أداة لتحقيق التضامن المجتمعي الحقيقي بطريقة تحفظ كرامة الإنسان وتحرره من الحاجة إلى غيره من الناس..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تتجاوز التفاوت الواقعي باللجوء إلى استدعاء مشاعر الرحمة بين المؤمنين ليتصدق الغني على الفقير.

9 -الدولة المدنية دولة تعددية السياسة فيها تفترض التعدد والدولة المفتوحة..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تفترض وجود العقيدة الدينية الواحدة.

10 -الدولة المدنية دولة مؤسسات السياسة فيها تهتم بتطوير الشكل كوسيلة لتطوير المضمون..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تهتم بتطوير المضمون كوسيلة لتنظيم الشكل..ولهذا ضمنت الدولة المدنية حيادها المؤسسي وألغت كل أشكال الوساطة بينها وبين المواطن الفرد الذي صار بمقدوره أن يحقق المكانة التي يستحقها بصرف النظر عن انتماءاته الأولية.

11 - الدولة المدنية دولة تنموية..ففيها تنعدم الصراعات والحروب الداخلية ويسود الاستقرار ويتفرغ المجتمع كله للتنمية المستدامة وتشييد العمران وبناء الحضارة.

12 –في الدولة المدنية السيادة للقانون، وليس لشيء آخر غيره..وهذه السيادة مستحيلة ما لم تكن الدولة وحدها من يحتكر أدوات القوة، ولها وحدها حق استخدام هذه الأدوات في إطار القانون.

         بمقدور القارئ اللبيب الآن أن يعرض كل واحدة من هذه السمات على الواقع العياني الملموس في اليمن ليكتشف حجم التحديات التي تقف أمام بناء الدولة المدنية..وسيجدها دون عناء في بنية الدولة المنقولة، وفي البنية الاجتماعية التقليدية، وفي وعي النخب التي تتحكم بأقدار المجتمع ومصير الدولة..ومن بين أبرز هذه التحديات نذكر ما يلي:

1 – الخلط بين الدولة والسلطة..وخطورة هذا التحدي تكمن في وجوده المزدوج على مستوى الدولة المنقولة وعلى مستوى وعي النخب المعطلة لمسار العملية الانتقالية..وليست المحاصصة في الوظيفة العامة للدولة وتمكين أهل الثقة والولاء سوى أحد تجليات هذا الخلط..

2 – الخلط بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، واختزال مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن، ومفهوم الجماعة الوطنية في مفهوم الجماعة الدينية..وهذا التحدي ناجم عن إشكالية معرفية في وعي النخب التي مايزال عقلها واقعا تحت سلطة النظام المعرفي للقرون الوسطى في مشهدها الإسلامي.

3 – عدم احتكار الدولة المنقولة لأدوات القوة، ووجود جماعات موازية لها تمتلك السلاح وتستخدمه لإملاء شروطها وفرض إرادتها.

4 – الأحزاب ذات البنية الأيديولوجية المغلقة التي هي في الواقع عصبيات أكثر مما هي أحزاب سياسية..فهي تمارس الاستقطاب داخل المجتمع لصالحها هي وليس لصالح الوطن وتصبح هي مركز ولاء أعضائها وأنصارها، وليس الدولة..وما لم تتراجع الأيديولوجيات داخل هذه الأحزاب إلى حدودها الدنيا يستحيل تحولها إلى أحزاب ديمقراطية وستظل تشكل تحديا حقيقيا لبناء الدولة المدنية.

         وللتذكير كانت التحديات الثلاثة الأولى هي أبرز موضوعات الخلاف خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت إعلان 22 مايو 1990..فعوضا عن القبول بمنطق بناء الدولة المدنية أبدت مراكز القوى العسكرية والقبلية والدينية في الشمال معارضة شديدة له وفرضت منطقها هي بقوة السلاح وتحت شعارات دينية ووطنية لتضيِّع على الشعب اليمني أكثر من عشرين عاما معظمها مضى في حروب وأزمات..وها هي اليوم تصرخ: وامعتصماه..والمعتصم هذه المرة هو عبد ربه منصور هادي..وإذا استمرأ أنصار الله إحراج المعتصم الجديد وإضعافه أمام مراكز القوى المعطلة سيأتي يوم يستغيثون فيه الناس فلا يغاثون..والخبرة المنظورة تؤكد أن المنتصر في الحروب الداخلية هو مهزوم لا محالة..والانتصار الحقيقي هو الانتصار لمشروع وطني جامع..وهذا النوع من المشاريع لا يقبل الانتصار بسلاح بعض الناس وإنما بوعي معظم الناس، إذا تعذر كلُّهم.

الخلط بين الدولة والسلطة:

         من أبرز سمات الدولة القديمة أنها دولة محافظة تقاوم التغيير دائما وتنزع نحو الثبات، وهذا لأنها مكونة من سلطة ومتسلطين وجماعات مصالح ومراكز قوى وقوانين تحمي هؤلاء..بينما من أبرز سمات السياسة أنها متغيرة دائما بسبب الحاجات المتجددة التي يخلقها المجتمع ويتوقع من الدولة أن تحققها له..وهنا ينشأ تناقض حقيقي وحاد بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة..وعندما يصل هذا التناقض إلى مرحلة حرجة يقع الصدام الذي يتسم في الغالب بطابع عنيف..وطرفا هذا الصدام عادة هما النخب التي تحكم وتتحكم والنخب التي تتطلع إلى الحكم وتعلن نفسها حاملة لمطالب المجتمع.

         ونتيجة الصدام إما أن تفضي إلى هزيمة النخب المتطلعة إلى الحكم وإما أن تفضي إلى الإطاحة بالنخب التي تحكم وتتحكم..في الحالة الأولى يسمى الصدام تمردا وخروجا على الشرعية وإقلاقا للسكينة العامة ويُعلق المتمردون على أعواد المشانق حفاظا على هيبة الدولة..وفي الحالة الثانية يسمى الصدام ثورة وملحمة بطولية ويسمى المتمردون ثوارا..ولكن ما أن يجلس الثوار على مقاعد الحكم حتى تستريح لها مؤخراتهم  وتتحول الثورة إلى هراوات لقمع أي ثائر جديد..والسبب لأن الثورة لم تغير الطبيعة المحافظة للدولة، وكل ما فعلته هو أنها أطاحت بنخب وجاءت بنخب أخرى بديلة..وفي لحظة ما قادمة يفضي التناقض بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة إلى صدام جديد فيما يشبه الدوران داخل عجلة مفرغة.

         وفي دولة كهذه تتعذر التنمية المستدامة لأن النخب التي تحكم وتتحكم تهدر معظم الموارد المتاحة للحفاظ على بقائها في الحكم..والنخب التي تعارض تهدر معظم وقتها وجهدها ومالها في التآمر على النخب التي تحكم..وكل منهما يجر وراءه الأنصار والمؤيدين من داخل المجتمع الذي يصبح موضوعا للاستقطاب الحاد فتشيع في أوساطه ثقافة الكراهية ويكون من ثم مرشحا للإنزلاق إلى حروب داخلية.

         وللخروج من هذه الدوامة الصراعية أنتج العقل الإنساني دولة مغايرة هي الدولة المدنية الحديثة التي حلت في الغرب محل الدولة القديمة وضمنت لمجتمعاته الأمن والاستقرار الدائمين والتنمية المستدامة التي أنتجت كل هذا التقدم في مختلف مجالات الحياة..ولكن هذا العقل لم يكن مؤهلا لإنتاج هذه الدولة إلا بعد أن تحرر من السلطة المعرفية للقرون الوسطى التي كانت فيما مضى تصوغ طرائق تفكيره واستدلالاته ومحاكماته..والقرون الوسطى ليست مجرد فترة زمنية خاصة بأوروبا المسيحية وإنما هي حالة ثقافية ذهنية ذات طابع عالمي مارست تأثيرها بأشكال مختلفة على العقل الإنساني في كل مكان، وماتزال تمارس هذا التأثير في أكثر من مكان، بما في ذلك العالم العربي.

         لقد وقف العقل الخارج من القرون الوسطى أمام ظاهرة الدولة القديمة ودرسها بعمق واكتشف نزعتها المحافظة، مثلما اكتشف الطبيعة المتغيرة للسياسة..واستنتج أن التناقض الصراعي بين طرفي هذه المعادلة هو جوهر المشكلة..ورأى أن الحل يكمن في القضاء على النزعة المحافظة للدولة وتحويلها إلى دولة مرنة تتكيف بسرعة مع متغير السياسة..وفي الوقت نفسه عقلنة السياسة ومأسستها..وهو إلى جانب ذلك ميَّز بين بناء الدولة وبين إدارة الدولة..وقرر أن البناء لا يقوم إلا على قاعدة التوافق الوطني، بينما تقوم الإدارة على قاعدة التنافس الديمقراطي..والبناء يسبق الإدارة زمنيا ومنطقيا.

         ومن مآثر العقل الخارج من القرون الوسطى أنه أيضا ميَّز بين الدولة وبين السلطة..ولاحظ أن هذه الأخيرة تستحوذ على الدولة القديمة وتصادرها وتنفيها وتحل محلها..وهذا هو الخلط بين الدولة والسلطة..والحل يكمن في إزالة هذا الخلط بوضع حدود صارمة بين الدولة والسلطة، بحيث تكون الدولة هي العام الثابت وتكون السلطة هي الخاص المتغير..ولضمان صرامة الحدود بين الدولة والسلطة وعدم تعدي أي منهما على الأخرى جرى ابتكار نظام يؤدي هذا الدور..وهذا النظام تحديدا هو النظام السياسي الحديث الذي بدونه تستحيل مدنية الدولة.

        إن النظام السياسي في الدولة المدنية هو الذي يضبط العلاقة بين الدولة والسلطة ويجعل الدولة حاضنة للسلطة، ويمنع السلطة من مصادرة الدولة ونفيها..ويتكون هذا النظام من ثلاثة أضلاع على النحو التالي:

1 – قوى تحكم في النظام ومن أجل النظام، وليس خارجه ومن أجلها هي.

2 – قوى تعارض في النظام ومن أجل النظام، وليس خارجه ومن أجلها هي.

3 – قوى تحمي النظام.

         إن القوى التي تحكم منتخبة من الشعب..والقوى التي تعارض هي أيضا منتخبة من الشعب..وكل منهما حاصل على تفويض من صاحب السيادة الشعب..والفرق بينهما ليس في القيمة ولا في الأهمية، وإنما هو فرق إجرائي ناجم عن الفرق في عدد أصوات الناخبين.. فالشعب لا ينتخب الأكثرية فقط، وإنما الأقلية أيضا..لذلك كلاهما سلطة مستمدة من إرادة الشعب..الأولى سلطة الحكم والإدارة، والثانية سلطة المعارضة والرقابة..وليس بمقدور أي منهما أن تعيق الأخرى عن ممارسة مهامها، لأن القوى التي تحمي النظام لا تسمح بذلك.

         أما القوى التي تحمي النظام فليست منتخبة، وإنما متوافق عليها..وهي لهذا السبب تنتمي إلى الدولة لا إلى السلطة، إلى الثابت لا إلى المتغير، إلى العام لا إلى الخاص..وهي لا تكون مؤهلة للقيام بدور الحماية إلا بوقوفها على مسافة واحدة من القوى التي تحكم والقوى التي تعارض..وتتكون قوى الحماية من الجيش، ومنظومة الأمن، ومنظومة القضاء، ومنظومة التعليم، والجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)، والإعلام، والرأي العام، وصناديق الاقتراع.

         إذا تأملنا في الأضلاع الثلاثة للنظام السياسي سنلاحظ أنه أوسع من مفهوم السلطة، لأنه يتضمنها بشقيها الأكثري الذي يحكم ويدير، والأقلِّي الذي يعارض ويراقب..وسنلاحظ أنه أضيق من مفهوم الدولة لأنه لا يتضمنها كلها..وإذا أضفنا إلى أضلاعه الثلاثة الأرض (الإقليم) والشعب (السكان) اكتملت عناصر الدولة وفقا لتعريفها الأكاديمي.

         وإذا عدنا إلى الحالة اليمنية وتذكرنا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي أطلقه الشباب في ثورة فبراير 2011، سنلاحظ أن النظام الذي أراد الشباب إسقاطه لا وجود له بالمعنى الذي نتحدث عنه هنا، وما هو موجود ليس نظاما وإنما ركام من الفوضى الموحدة بالقوة القهرية..ومعنى ذلك أن شعار إسقاط النظام لا يعني شيئا من الناحية العملية سوى إسقاط هذه القوة القهرية التي توحد ركام الفوضى..ولو أنها أسقطت فعلا فإن تباين أهداف المهاجمين سيفضي إلى نتيجة خطيرة هي انفلات الركام وشيوع الفوضى التي قد تصل إلى الحرب "من طاقة إلى طاقة" حسب تعبير الرجل الممسك بصاعق القوة القهرية..وهو عندما قال ذلك كان يعي ما يقول، لأن موقعه على رأس الدولة على مدى ثلاثة وثلاثين عاما أتاح له أن يحول البلاد كلها إلى حقل ألغام تحسبا ليوم السقوط..والذي حدث أن التسوية السياسية انتزعت الصاعق من يده وتركت التعامل مع ركام الفوضى للسياسة خلال فترة إنتقالية مهمتها استخلاص النظام من بين هذا الركام.

         واستخلاص النظام من بين ركام الفوضى يقتضي أولا أن يكون النظام نفسه حاضرا في وعي النخب القائمة على العملية السياسية على المستويين النظري والإجرائي العملي..بمعنى أنها يجب أن تكون مدركة لما هو مطلوب منها أن تفعله وكيف يجب أن تفعله ومن أين تكون البداية..وباستثناء مؤتمر الحوار الوطني الذي وقفت وراءه إرادة وخبرة دولية لم تستطع لا مؤسسة الرئاسة ولا حكومة الوفاق أن تحققا توقعات الشباب من الثورة..ولهذا شاعت حكاية سرقتها ولقيت رواجا واسعا.

         وفي ظل هذا الرواج ألقى عبد الملك الحوثي بما ألقى..قال إنه يريد إلغاء "الجرعة" وإسقاط الحكومة الفاسدة وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وإلا فالصميل مخلوق من الجنة..وبدلا من التعاطي السياسي مع معطيات اللحظة ذهب البعض يتحدث عن الرجل القادم من الكهوف ويستغيث بمجلس الأمن والدول العشر..مع أن اليمن معظمها كهوف، وأكثر كهوفها في العاصمة وحول الرئيس تضغط عليه لتفجير الموقف عسكريا مع أنصار الله..وإذا وقع المحذور ونجحت في إقناعه فإن الحرب لن تنهي أنصار الله ولا خصوم أنصار الله، وإنما ما تبقى من الدولة..وسيكون هادي أول ضحاياها ومعه العملية السياسية برمتها لتخلو اليمن للمجانين من كل حدب وصوب.

         إن المرحلة تقتضي وعلى نحو عاجل تشكيل حكومة كفاءات برئاسة رجل قوي يستطيع أن يقول هذا الوزير لا يلزمني ومكانه ليس هنا..على أن تنفذ الحكومة برنامجا توافقيا محددا قابلا للقياس والتزمين والتنفيذ..وأن ترتب مهام المرحلة منطقيا على النحو التالي:

1 – الأمن أولا..وعلى رأس هذه المهمة إعادة الجيش والأمن إلى حظيرة الدولة وتحريرهما تماما من كل الولاءات القديمة تطبيقا لمخرجات الحوار الوطني..ومكافحة الإرهاب واستئصال أسبابه ومسبباته يندرج في إطار هذه المهمة.

2 – النظام ثانيا..والنظام هنا يعني التخلص تماما من الخلط القائم بين الدولة والسلطة في كل هياكل ومستويات الدولة، وعقلنة الرأي العام بواسطة إعلام مهني وشفاف، ومعالجة التحديات التي تقف أمام بناء الدولة المدنية..باختصار شديد تمكين الدولة الضامنة من الحضور في حياة اليمنيين.

3 – العدل ثالثا..بعد الأمن والنظام يأتي العدل الذي يستحيل بدونهما..والمقصود بالعدل هنا توفير الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة للناس وعدم تحميل الأغلبية الفقيرة في المجتمع كلفة التغيير والإصلاح.

4 – التنمية رابعا..إذا توفر الأمن والنظام والعدل فإن التنمية ستصبح ممكنة وستتوفر لها شروطها المؤسساتية والنظامية والقانونية وسيجد المجتمع نفسه ينخرط فيها.

5 – توفير شروط انتقال مدروس وآمن وفاعل إلى الدولة الاتحادية لا يقتصر على مجرد الاستفتاء على الدستور الجديد والذهاب إلى انتخابات.

5 – تنفيذ كل مخرجات الحوار الوطني فيما يتعلق بالمحتوى الحقوقي للقضية الجنوبية.

6 – تنفيذ مخرجات الحوار الوطني فيما يخص قضية صعدة.

         وأول شرط في أي حكومة كفاءة أن تكون على علم بكل الخطوات الإجرائية  اللازمة لتنفيذ هذه المهام والأعراض الجانبية المتوقعة وكيفية معالجتها والتعامل معها بفاعلية..والشرط الثاني أن تعرف كيف تتعامل تعاملا عقلانيا وفاعلا يقتنع به الشعب ويحترمه المانحون والداعمون الدوليون مع أي معارضة ديماغوجية اعتادت العيش على تجهيل الرأي العام وتضليله وتعبئته ضد مصالحه ومستقبله.

قراءة 2436 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة