الجمهورية اليمنية ( 1990 – 2015 ) "3"

السبت, 12 أيلول/سبتمبر 2015 18:19 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

ثالثا: الجمهورية اليمنية (21 فبراير 2012 – 21 سبتمبر 2014):

         إنتهينا في الجزء الثاني إلى القول بأن فشل المرحلة الإنتقالية التي أعقبت خلع علي صالح كان كارثيا، بدلالة انقلاب الثورة المضادة المسلح على خارطة طريق التسوية السياسية والتوافق الوطني وتسببها في دفع البلاد إلى الحرب الراهنة بأبعادها المحلية والخارجية..وقلنا إنه من غير الجائز إلقاء اللائمة فيما حصل على المبادرة الخليجية..وحتى لا يتكرر الفشل، على أي نحو كان، لابد من الكشف عن أسبابه الحقيقية وتسمية الأشياء بأسمائها..وهذا ما سنفعله في هذا الجزء المكرس للفترة الزمنية الواقعة بين 21 فبراير 2012 و 21 سبتمبر 2014.

 معنى الفترة الإنتقالية:

         تعني الفترة الإنتقالية الانتقال من نظام سياسي تقادم وتآكلت شرعيته وأصبح مرفوضا إلى نظام جديد يفترض أن يحظى بالقبول والمشروعية..ورفض النظام القديم  لا يكون عادة محل إجماع مجتمعي، ويكفي أن تكون هناك أكثرية شعبية كافية قادرة على ممارسة الرفض المنظم ومصرة على إحداث التغيير..وهذا ما ظهر واضحا في ثورة فبراير 2011 حيث الأغلبية الشعبية كانت مع التغيير حد الاستعداد للتضحية من أجله.

         واليمن ليس أول بلد في العالم يشهد فترة إنتقالية..فالفترات الانتقالية مرت بها كل البلدان التي شهدت تحولات ثورية عاصفة على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي..والمراحل الانتقالية إما أن تتسم بالسهولة والسلاسة وإما أن تكون صعبة وصراعية..في الحالة الأولى يقتصر برنامجها على مهمتين إثنتين هما التوافق على دستور جديد ثم الذهاب إلى انتخابات وفقا للدستور المتوافق عليه..وهذه حالة مثالية أنموذجها الأبرز المرحلة الانتقالية في أسبانيا بعد الدكتاتور فرانكو..أما في الحالات الصعبة والصراعية فلابد أن يتضمن برنامج المراحلة الانتقالية – إلى جانب هاتين المهمتين - مهاما أخرى يتعذر بغير إنجازها نجاح الديمقراطية حتى وإن كان الدستور المتوافق عليه ديمقراطيا 100%..وتختلف هذه المهام من بلد إلى آخر بحسب خصوصية كل بلد..وفي الحالة اليمنية تحدد برنامج الفترة الانتقالية بثمان قضايا تضمنتها المبادرة الخليجية حين ألزمت الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني بالدعوة إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل خلال المرحلة الإنتقالية يبحث فيما يلي:

1 - صياغة دستور جديد للبلاد.

2 - معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.

3 - حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.

4 - النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.

5 - إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية.

6 - اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا.

7 - إتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال، والنهوض بالمرأة.

8 - الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع.

         وبما أن المرحلة الانتقالية في الحالة اليمنية صعبة وصراعية فقد كان واضحا منذ البداية أن عبورها محفوف بمخاطر كثيرة..وهذا يتوقف على أداء مختلف أطراف التسوية السياسية التي ترتبت على ثورة فبراير 2011..والمعروف أن بعض هذه الأطراف كان داعما للثورة، والبعض الآخر جاءت الثورة للإطاحة به..والمتوقع أن يسعى البعض الآخر هذا إلى إفشال المرحلة الانتقالية دفاعا عن النظام القديم..وهو بهذا المعنى يشكل تحديا منظورا بإجماع الأغلبية الشعبية التي ثارت ضده، وما كانت أبداً تريد أن تراه طرفا في التسوية السياسية..ولكن ماذا بالنسبة للبعض الأول الذي وقف مع الثورة وآزرها؟.والسؤال هنا متعلق بتلك الأطراف التي تحالفت في إطار اللقاء المشترك ثم في إطار المجلس الوطني لقوى الثورة..وفي اعتقادنا أنها هي الأخرى تنطوي على تحدٍ من نوع ما سنسميه تحدياً غير منظور نسبيا، وليس بالمعنى المطلق..فهي – كلها أو بعضها – فاقدة لإرادة التغيير الذي يتطلع إليه الشعب وغير مؤهلة للعبور فوق انتماءاتها الحزبية والجهوية والفئوية وكل ما سواها من التحيزات ما دون الوطنية..ونحن هنا لا نتحدث عن كيانات متحالفة وإنما عن نخب قادت هذا التحالف وأصبحت طرفا في التسوية السياسية من موقعها المعارض لنظام علي صالح..وسوف نعرِّف هذا الطرف إجرائيا على أنه "يسار النخبة" تمييزا له عن "يمين النخبة" الذي قامت الثورة للإطاحة به.

          ومن حق القارئ اللبيب أن يتابعنا بحذر شديد ونحن نناقش أداء "يسار النخبة" لأن الأمر متعلق بأطراف في التسوية السياسية انقلبت عليها ثورة مضادة جهوية متكئة على أوهام عنصرية إستعلائية وإقصائية تهدد وحدة البلاد وأمنها واستقرارها وسلامها الاجتماعي وتعرض نسيجها الوطني للتمزق.

 العامل القيادي خلال المرحلة الإنتقالية:

         تميِّز الدراسات السياسية بين القيادة السياسية كطبقة، والقيادة السياسية كعملية(Process)..فمن حيث هي طبقة فهي حاصل جمع القائد والنخبة..ومن حيث هي عملية فإنها حاصل تفاعل ثلاثة عناصر: (القائد + النخبة + البرنامج السياسي)، على أن ينضبط هذا التفاعل لقيم ومثاليات المجتمع وما يتطلع إليه الشعب ويتوقعه من القيادة..والذي يهمنا هنا هو التعريف الثاني للقيادة كعملية تفاعلية القائد فيها هو الرئيس هادي كفرد..أما النخبة فهي ظاهرة جماعية تشمل كل من له سلطة ونفوذ من نوع ما ويستطيع أن يمارس التأثير على القائد بحثه على اتخاذ قرار ما أو صرفه عن اتخاذ قرار آخر، بصرف النظر عن حجم ونوع هذا التأثير..أما البرنامج السياسي فهو هنا برنامج المرحلة الانتقالية المحدد بقضايا ثمان تضمنتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقد أتينا على ذكرها أعلاه..والملاحظ على هذا البرنامج أنه العنصر المحايد في عملية التفاعل..أما بالنسبة لمخرجات التفاعل فلا يهمنا منها سوى تلك التي أفرزها تفاعل القائد مع يسار النخبة..أما يمين النخبة فقد حسمنا موقفنا منه باعتباره تحديا منظورا يتربص للإنتقام من الثورة..وحاصل التفاعل بين القائد ويسار النخبة  له أربعة احتمالات نجملها فيما يلي:

1 - إما أن يكون القائد إيجابيا في تفاعله مع يسار النخبة ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع، ويسار النخبة أيضا مثله إيجابي ومنضبط..وهذه عملية تفاعلية ضامنة لمعدلات عالية في النجاح.

2 - إما أن يكون القائد إيجابيا ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع ويسار النخبة سلبي وغير منضبط..وهذه عملية تفاعلية تحتمل نجاحا نسبيا يحسب للقائد.

3 - إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع ويسار النخبة إيجابي ومنضبط..وهذه عملية تفاعلية تحتمل النجاح الكلي أو الجزئي في بعض مهام المرحلة والفشل الكلي أو الجزئي في البعض الآخر..ومن الطبيعي أن يحسب النجاح ليسار النخبة.

4 - إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع، وكذلك يسار النخبة مثله سلبي وغير منضبط..وهذه عملية تفاعلية نتيجتها الفشل الكارثي..ومسؤلية الفشل في هذه الحالة يتحملها القائد ويسار النخبة معا.

         وباستثناء النجاح الذي حققه مؤتمر الحوار الوطني فإن فشل المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها كان كارثيا بدلالة نجاح الثورة المضادة في الإنقلاب المسلح على التسوية السياسية وجرها البلاد إلى حرب شاملة ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية..ومعنى ذلك أن الاحتمال الرابع هو الذي تحقق وأن القائد ويسار النخبة كليهما كان سلبيا في تفاعلهما المتبادل، وكليهما كان غير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع..وإذا كنا نعرف القائد كفرد ممثلا بالرئيس هادي فإن النخبة كظاهرة جماعية تحتاج إلى مزيد من التعريق والتحديد..وهي كما رأيناها طافية في المشهد السياسي تشمل ما يلي:

أولا: يسار النخبة:

         وهو ذلك الجزء من النخبة الذي دعم الثورة وآزرها، أو على لأقل رحب بها واستحسنها صراحة أو مواربة..وسوف نأتي على ذكر مكوناته فيما بعد.

ثانيا: يمين النخبة:

         وهو ذلك الجزء من النخبة الذي استهدفته ثورة فبراير 2011..وقد اعتبرناه تحديا منظورا أمام نجاح المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها..وهو بهذا المعنى ثورة مضادة في حالة تربص، بصرف النظر عن دخولها طرفا في التسوية، وتشمل ما يلي:

1 – علي صالح وفريقه على رأس المؤتمر الشعبي العام صاحب السلطة العميقة في البلاد على مستوى المركز والمحليات.

2 – 50 % من أعضاء حكومة الوفاق (نصيب المؤتمر الشعبي العام وحلفائه).

3 – قيادات عسكرية موالية لعلي صالح.

         وما يهمنا هنا هو المجموعة التي اعتبرناها يسار النخبة وليس يمينها..ذلك أن الآمال في نجاح المرحلة الانتقالية كانت معلقة على هذا المجموعة تحديداً..فهل كانت إيجابية في تفاعلها مع القائد؟ وهل كان القائد إيجابيا في تفاعله معها؟ وهل كان الطرفان منضبطين لقيم ومثاليات المجتمع ومخلصين لتطلعات الشعب في بناء دولة لكل مواطنيها؟.

         قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب أولا أن نعثر على معيار مقبول لقياس الإيجابية في عملية التفاعل بين القائد ويسار النخبة..وهذا المعيار من وجهة نظرنا هو العنصر الثالث المحايد في عملية التفاعل ممثلاً ببرنامج المرحلة الإنتقالية المذكور أعلاه..فالتفاعل يكون إيجابيا إذا كان الطرفان مقتنعين بهذا البرنامج ومتحمسين لإنجازه، وحصل بينهما تعاون قوي أفلحا معه في التوصل إلى ما يلي:

1 - التحديد الدقيق للتحديات التي تهدد نجاح المرحلة الانتقالية في إنجاز برنامجها.

2 – ترتيب هذه التحديات حسب خطورتها وأولويتها.

3 - إختيار الوسائل والآليات الملائمة للتغلب على هذه التحديات بما يتفق مع القدرات الحقيقية للمجتمع والإمكانيات المتاحة.

4 - إتخاذ القرارات اللازمة في التوقيت المناسب لقطع الطريق أمام المشكلات والأزمات المتوقعة التي يمكن أن تفرزها هذه التحديات.

         ويكون التفاعل سلبيا إذا كان الطرفان غير مقتنعين ببرنامج المرحلة الانتقالية وغير متحمسين لإنجازه، ولم يحصل بينهما تعاون قوي للتعرف على تحديات المرحلة وكيفية التعاطي معها..والسلبية هنا تعني عدم الأهلية المعرفية، وعدم الاقتدار القيادي، وغياب الرؤية، والاستغراق في تحقيق مكاسب شخصية وحزبية وفئوية وجهوية...الخ..ولكن كيف جاز لنا الحكم على هذا الجزء من النخبة بالسلبية التي ضمناها هذه المعاني؟.لماذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن هذا الجزء من النخبة هو الآخر غير متجانس سياسيا؟.

         لقد أصدرنا حكما إجماليا على القائد ويسار النخبة أسسناه على نجاح الثورة المضادة في الإنقلاب المسلح على مسار التسوية السياسية وجرها البلاد إلى حرب مدمرة كان يمكن تجنبها..لكن حكما كهذا ينطوي دون شك على قدر من الظلم والإجحاف إذا بقي إجماليا على قاعدة "السيئة تعم والحسنة تخص"..لكنا ندعو القارئ اللبيب إلى التريث وعدم استعجال التفاصيل التي سنأتي عليها لاحقا في السياق.  

تحديات المرحلة الانتقالية:

         تعرفنا على مهام المرحلة الانتقالية كما هي مضمنة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومحددة في نقاط ثمان من بينها " إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية"..ومهام من هذا القبيل في مرحلة إنتقالية صراعية لا بد أن تقف أمام إنجازها تحديات..والتعرف عليها لا يحتاج إلى اجتراح معجزة وإنما إلى تعاون وتكامل بين القائد ويسار النخبة..وفيما يلي سنحاول التعرف على هذه التحديات من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: 1 – ما هي حالة الدولة؟.2 – ماهي حالة المجتمع المدني؟.3 – ما هي حالة التنظيمات الوسيطة؟.4 - ما هي حالة الوحدة الوطنية للبلاد؟

         إن الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة ستكشف عن كثير من المستور وستساعدنا في  التعرف على الأسباب الحقيقية لفشل المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها وتمكين الثورة المضادة من الانقلاب على التوافق الوطني ودفع البلاد نحو حرب كان يمكن تجنبها.

أولا: حالة الدولة:

         عشية ثورة فبراير 2011 كانت الدولة مصنفة عالميا كدولة " فاشلة عاجزة عن تحقيق وظائفها تجاه المجتمع فيما يتعلق بالأمن والنظام والعدل والتنمية "..وهذا عائد إلى كونها دولة مصادرة في طريقها لأن تصبح دولة صالحية مهيئة للتوريث مثلها مثل أي عقار خاص أو رصيد بنكي ينتقل بالوراثة من الأب إلى الإبن..وهناك جيش خاص تحت مسمى الحرس الجمهوري جاهز لسحق أي إرادة معارضة لإرادة التوريث..والولاء في كل مؤسسات الدولة المركزية والمحلية كان لشخص الرئيس، وكذلك هو الحال في سلطات الدولة الثلاث، بما في ذلك البرلمان الذي يفترض أنه يعبر عن إرادة الشعب..هذا فضلا عن جيش جرار من المنتفعين تحت مسمى المؤتمر الشعبي العام الذي يصادر الوظيفة العامة رأسيا وأفقيا في كل مفاصل الدولة في المركز والمحليات..باختصار لم تكن هناك دولة حاضنة للسلطة، وإنما سلطة عميقة صادرت الدولة واستحوذت عليها كليا ولم تبقِ فيها على أي شيء اسمه فضاء عام لكل اليمنيين، بما في ذلك كتب المطالعة المدرسية التي تلقن التلاميذ أيديولوجيا النظام وتقدس حروبه الداخلية ضد الشركاء الوطنيين..ودولة من هذا القبيل لا يمكن أن تدار إلا بآليات الفساد والإفساد فضلا عن القوة القهرية.

         إذن حالة الدولة تنطوي على تحديات كثيرة تمتد من المركز إلى المحليات وتتحرك داخل مساحة واسعة تشمل كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة..لكنها تتفاوت من حيث درجة خطورتها وقدرتها على إفشال مهام المرحلة الانتقالية..وكان على القيادة السياسية أن ترتبها بحسب خطورتها وأن تعالجها على مرحلتين..بحيث تكون الأولى إسعافية وسريعة لا تحتمل التأجيل، والثانية نهائية تترك للنقاش والتوافق على كيفية معالجتها عبر الحوار الوطني..والمعالجة الإسعافية تعني تحييد هذا التحدي أو ذاك وشل قدرته على الإعاقة والتعطيل والممانعة.

         وإذا أردنا أن نسمي بعض التحديات التي تمثلها حالة الدولة سنشير تلقائيا إلى القضاء وأجهزة الضبط القضائي والخدمة المدنية والسلطة المحلية والتعليم والإعلام والجيش والأمن....الخ..لكن إذا رتبناها بحسب خطورتها فسنضع الجيش على رأسها، ويليه في الخطورة حالة الإعلام كسلطة ناعمة شديدة التأثير على اتجاهات الرأي العام.

         وفيما يتعلق بالجيش جميعنا يعلم أن المبعوث الأممي جمال بن عمر ذهب شخصيا إلى كبار أركان نظام علي صالح في المؤسسة العسكرية وأقنعهم بعدم جدوى التمرد على قرارات الرئيس الانتقالي التي قضت بتغييرهم..وكان هذا أول وأصعب إجراء إسعافي شمل أقرباء علي صالح على رأس الجيش وقوبل بارتياح شعبي واسع..وهذا الإجراء هيأ المناخ لمواصلة الاجراءات الإسعافية في المؤسسة العسكرية على نحو سريع وشامل بحيث يتم الانتهاء منها قبل انصرام الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية؟.فلماذا لم تتواصل هذه الإجراءات؟.هنا لا مناص من الكشف عن المستور.

         إن تحديا غير منظور هو الذي حال دون مواصلة الاجراءات الاسعافية في المؤسسة العسكرية..وهذا التحدي مثلته " سلبية القائد في تفاعله مع يسار النخبة، وسلبية يسار النخبة في تفاعلها مع القائد"..ولأنه غير منظور فإنه موضوع خلافي لن يوافقنا عليه كثيرون ممن اصطفوا مع ثورة فبراير 2011..أما عدم الموافقة فلأسباب هي في أغلبها حزبية وسياسية وأيديولوجية..وهناك متحررون من هذه الأسباب قد يعترضون علينا لاعتقادهم أننا أفرطنا في المثالية عندما ألقينا باللائمة على القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة..ويعتقد هؤلاء أن تفاعل القائد ويسار النخبة مع التحدي الذي مثله الجيش لم يكن سلبيا، وأن التعاطي مع هذا التحدي كان مرنا وواقعيا..وهذا اعتراض يستحق المناقشة.

         إن الجيش في نظر هؤلاء المعترضين منطقة خطرة يتعذر الاقتراب منها وإخضاعها لإصلاحات إسعافية سريعة تنقله من مربع الولاء لعلي صالح إلى مربع الحياد الإجباري، وإعادة هيكلة الجيش على النحو الذي تم كان هو الممكن الواقعي الوحيد..ويردد هؤلاء مع الرئيس هادي أن علي صالح لم يسلم السلطة وإنما سلم العلم فقط، وأن السلطة على الجيش بقيت للرئيس السابق..فهل هذه حجة يعتد بها؟.هل فعلا أن صالح لم يسلم لهادي إلا العلم؟ أم أن المشكلة في هادي ويسار النخبة؟. علينا أن نقف أمام هذه الجزئية بموضوعية وشجاعة أدبية.

         إننا إزاء تسوية سياسية تمت في مناخ ثوري، وقامت على مرحلتين إنتقاليتين برعاية إقليمية ودولية..المرحلة الأولى مدتها ستون يوما إنتقلت خلالها صلاحيات الرئيس إلى النائب..بينما بقي علي صالح محتفظا بشرعيته كرئيس..وشرعية بلا صلاحيات هي شرعية في حالة احتضار..ويوم 21 فبراير 2012 تم الإعلان عن موت شرعية علي صالح ودفنها ليصبح هادي هو الرئيس الشرعي بموجب توافق وطني ممهور بتزكية الشعب..فهل من الجائز القول إنه لم يستلم إلا العلم؟.هل كان ينتظر من علي صالح أن يعمل له جردا مخزنيا بضباط الجيش؟.هل كان ينتظر من الشيطان أن يتحول إلى ملاك؟.إننا إزاء مرحلة إنتقالية صراعية ومعترك سياسي لا مكان فيه لحسن النوايا..والشرعية التي أصبحت لهادي كرئيس انتقالي منحته صلاحيات تقليم أظافر الشيطان في المؤسسة العسكرية خلال الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية..لكن تحديا غير منظور هو الذي أعاق هادي ورفع شهية علي صالح للعودة إلى السلطة.

         لقد كان على القائد وبتعاون فعلي من يسار النخبة الشروع فورا في عقد مؤتمر وطني شفاف للجيش تبنى تقاريره بناء علميا ووطنيا على قاعدة بيانات ميدانية دقيقة وشفافة تكشف حقائق الفساد الكبير في هذه المؤسسة وتؤسس لسلسلة من القرارات الإسعافية والسريعة التي تخرج الجيش من حالة الخطر الذي يمثله على المرحلة الانتقالية، وما تبقى يترك للمعالجة عبر الحوار الوطني..وهذه مهمة كان بالإمكان إنجازها خلال الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، وأن تصاحبها تغطية إعلامية واسعة ونوعية تضع الرأي العام في صورة ما يجري أولا بأول لضمان مساندة إيجابية ومنظمة من قبل الشعب التواق إلى رؤية التغيير والجاهز للدعم والتأييد..أما القول بأننا مفرطون في المثالية فمعناه أن الثورة المضادة كانت حتمية ولا راد لقضائها وقدرها..وهذا تبرير للفشل وتستر على الفاشلين الذين لم يكونوا عند مستوى اللحظة التاريخية التي وفرتها الثورة.

          أما إعادة هيكلة الجيش - على النحو الذي تم – فقد تحكمت بها حسابات ما دون وطنية عند القائد وعند يسار النخبة..وتجلى ذلك من خلال المناقلة وتبادل المواقع القيادية في الجيش وممارسة سياسة الإرضاء والاسترضاء..وبرغم أن إعادة الهيكلة لم تقلم أظافر الشيطان إلا أنها كانت عرضة لتشكيكه وتسفيهه حد القول بأنها مؤامرة على درع الوطن وعينه الساهرة..مع أن إعادة الهيكلة كشفت عن أرقام ومعلومات خطيرة ظلت طي الكتمان..فالشعب لم يعلم إلى اليوم أن حجم الفساد في كل لواء عسكري تراوح بين 20 و 40 مليون ريال يمني شهريا (الحرس وحده 32 لواء وربما أكثر والفرقة 27 لواء)، وأن الجيش اليمني هرم مقلوب عدد العقداء فيه أكثر من عدد الملازمين بسبب الترقيات التي كانت تتم خارج القانون، وأن 97 ألف جندي و17 ألف ضابط من محافظة ذمار وحدها وأغلبهم من مديرية واحدة (آنس)..كما لم يتم الكشف عن الأسماء الوهمية التي بلغت أرقاما مهولة تجاوزت الأسماء الفعلية في الميدان..يضاف إلى ذلك التركيبة المناطقية للجيش الذي ينتمي معظمه إلى ثلاث محافظات هي ذمار وصنعاء وعمران..يضاف إلى ذلك مناطق تموضعه التي لا يوجد ما يبررها من منظور الأمن القومي للبلاد..ومناطق التموضع هذه تستدعي بالضرورة تكريس عقيدة عسكرية غير وطنية..وهذا يفسر السهولة التي انقاد بها الجيش وراء مليشيات الحوثي ليخوض حربها ضد الوطن.

         ولكن هذا كله لا يعني أبدا أن الجيش كان منطقة عصية على أية إصلاحات إسعافية..فالمشكلة تكمن في البنية، أما الأفراد ومعظم الضباط فلن يقفوا ضد أية إصلاحات وطنية ومدروسة من كل جوانبها بحيث تتضمن معالجات مقنعة لكل الأعراض الجانبية التي يمكن أن تنتج عن الاصلاحات الاسعافية..وبما أن فساد نظام علي صالح طال كل مؤسسات الدولة وكل قطاعاتها فإن القضاء عليه في مؤسسة الجيش دون غيرها سيكون عديم المصداقية وسيفسر على أنه استهداف مالم ترافقه إصلاحات جادة في ثلاثة أو أربعة من أهم القطاعات..وبما أن شيئا من هذا القبيل لم يحصل فإن أول شعار رفعته الثورة المضادة هو إقالة حكومة الفساد..وسنبتعد كثيرا عن الموضوعية إذا لم نعترف بأن حكومة باسندوة كانت فعلا حكومة فساد.  

ثانيا: حالة المجتمع المدني.

         المجتمع المدني في أحد تعريفاته هو شبكة واسعة من المنظمات والتنظيمات والنقابات والاتحادات والجمعيات القوية والمتماسكة..وهو من خلال هذه الشبكة يسمي حاجاته ومطالبه التي يتوجب على السياسة أن تصغي إليها وأن تلبيها..وهي دائما حاجات متجددة تغطي كل مناحي حياة المجتمع التي لا تستقيم الحياة المعاصرة بدونها..وفضلا عن ذلك يلعب المجتمع المدني القوي والمنظم دورا محوريا في منع تغول الدولة وجنوحها نحو الاستبداد.

         وإذا نظرنا إلى المجتمع المدني عندنا في ضؤ هذا التعريف سنجده مجتمعا ممزقا وضعيفا معظمه يفتقر إلى الحد الأنى من التنظيم..والتنظيمات القائمة مسميات بلا أي فاعلية لأنها عمليا مخترقة من الأجهزة الأمنية وزبانية السلطة ومخبريها، فضلا عن اختراقها من قبل الأحزاب التي تعتقد أنها لا تستطيع أن تتنفس إلا بالسيطرة على تنظيمات المجتمع المدني الأمر الذي جعل من هذه التنظيمات ساحات للصراع بين أحزاب هي في مجملها تفتقر إلى الديمقراطية الفعلية في حياتها الداخلية..وهذه في مجموعها عوامل أضعفت المجتمع المدني وشلت فاعليته وقدرته على التأثير الإيجابي في الشأن العام.

         ولمقاربة الأهمية الكبيرة التي يمثلها المجتمع المدني المنظم بمقدور القارئ اللبيب أن يتخيل كل شيوخ القبائل وكل رجال الدين وكل عقال الحارات وكل مسلحي أنصار الله وقد قرروا أن يعتصموا في منازلهم ولا يغادرونها لعام كامل..بالتأكيد لن يترك هذا أي أثر سلبي على مسار الحياة اليومية..ولربما خلت شوارع المدن من المسلحين وكف الناس عن سماع أصوات الأعيرة النارية وتراجع حجم المخالفات المرورية إلى مستويات متدنية...الخ.

         لكن ماذا لو قرر كل المعلمين وكل المحامين وكل الصحفيين وكل المهندسين وكل الأطباء والصيادلة وكل أساتذة الجامعات وكل الجمعيات والاتحادات النسائية وكل الغرف التجارية وكل عمال القطاع الخاص والحكومي والمختلط وكل موظفي الجهاز المدني للدولة...إلخ أن يتواروا في منازلهم ليوم واحد؟..بالتأكيد ستصاب الحياة العامة بالشلل..أما إذا أضفنا إلى هؤلاء أولئك الذين يقدمون للمجتمع مختلف أنواع الخدمات الأخرى كسائقي سيارات الأجرة وعمال المطاعم وباعة التجزئة وعمال النظافة...الخ فإن المشهد سيتسم بالشلل التام.

         هذه الفئات مجتمعة منعت من تأطير نفسها مهنيا في تنظيمات مجتمعية مدنية، وتلك التي أطرت نفسها تعرضت تنظيماتها للإختراق الممنهج لإضعافها وشل فاعليتها..وهذا يفسر إلى حد كبير لماذا تجرأت مليشيات الحوثي من اجتياح العاصمة  ومصادرة أجهزة الدولة وتعطيل إيقاع الحياة اليومية وتضييع مصالح الناس وانتهاك الحقوق والحريات وتحويل البلاد إلى ساحة حرب وسوق سوداء للمتاجرة بالمحروقات والمشتقات النفطية..لقد فعلت كل هذا وأكثر لأنها جاءت إلى فضاء مجتمعي تعلم افتقاره إلى التنظيم الذي يمنحه القوة والقدرة على المقاومة المدنية السلمية الفاعلة..وبسبب غياب هذا النوع من المقاومة ذهبت المليشيات المسلحة تسوق نفسها على أنها الشرعية التي من حقها أن تفعل ما تريد وكيفما تريد..ولمواجهة هذا الوضع الشاذ نشأت مقاومة شعبية مسلحة لتملأ الفراغ الذي تركه ضعف المجتمع المدني..وشتان بين المقاومة المدنية السلمية والمقاومة الشعبية المسلحة..فالأولى هي مقاومة وطنية بالضرورة، والثانية يخالطها قدر كبير من عدم النقاء الوطني..ومن يشكك في هذا الحكم الآن عليه أن ينتظر حتى يحين وقت حصاد النتائج..والوضع الأمني في عدن بعد تحريرها يشير إلى بعض ملامح هذا الحصاد.

         إن ضعف المجتمع المدني كان من بين أبرز التحديات المنظورة أمام إنجاز المرحلة الانتقالية..أما التحدي غير المنظور فقد مثلته القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة..وإذا قدر لأي باحث أن ينقب في أرشيف الصحافة اليومية الصادرة خلال هذه المرحلة فلن يعثر على قرينة واحدة تثبت أن هذه القيادة كانت مدركة لطبيعة هذا التحدي..علما بأن الحديث هنا يتعلق بمنظمات كان بمقدورها أن تحشد مئات الآلاف من الفاعلين الاجتماعيين النوعيين لدعم عملية التحول السياسي في البلاد..ولم يكن مطلوبا من القيادة السياسية سوى الاعتراف الفعلي بشراكة المجتمع المدني في التغيير وتحريره من القبضة الأمنية والوصاية الحزبية وتمكينه من تنظيم طاقاته بالسرعة التي تشعر الثورة المضادة بأن حركة قطار التغيير أقوى من قدرتها على الإعاقة والممانعة..لكن الذي حصل أن الثورة المضادة كانت هي صاحبة المبادأة في حشد القبائل المسلحة للإعتصام في مداخل العاصمة وترديد شعارات كانت في مجملها كلمة حق أريد بها باطل..بينما أبقي المجتمع المدني مشلولا خارج دائرة الفعل السياسي.   

ثالثا:حالة التنظيمات الوسيطة:

         التنظيمات الوسيطة هي الأحزاب السياسية لوقوعها وسطا بين المجتمع والدولة..وبسبب هذا الموقع تأخذ الأحزاب معظم مضمونها من المجتمع ومعظم شكلها من الدولة..فكثير من خصائص المجتمع والدولة تنتقل إلى الأحزاب وتؤثر فيها..ونوع هذا التأثير يتوقف سلبا أو إيجابا على طبيعة المجتمع وطبيعة الدولة..فإذا كان المجتمع مستنيرا وعقلانيا وكانت الطبيعة المدنية هي الغالبة عليه كان تأثيره على الأحزاب إيجابيا..أما إذا كانت الأمية هي الغالبة وكانت الثقافة السياسية متدنية وكان المجتمع مكتضا بالعصبيات القبلية فإن التأثير يكون سلبيا..وقل مثل ذلك فيما يتعلق بأثر الدولة على الأحزاب..فإذا كانت الدولة ديمقراطية فعلا فإن هذه السمة تمتد لتشمل الأحزاب باعتبارها جزءا من المنظومة السياسية للبلاد..أما إذا كانت الدولة غير ديمقراطية فإن مرضها هذا ينتقل إلى الأحزاب بما في ذلك الحزب الحاكم الذي يستمد قوته من آليات الدولة لا من بنيانه الداخلي..والدولة غير الديمقراطية تذهب مذاهب متطرفة في السعي لإضعاف الأحزاب أمام حزب السلطة المصادرة للدولة..وأي حزب يتمتع بالقوة والعافية يظل في مرمى نيرانها حتى يفقد عافيته.

         ومثلما أن تأثير الدولة يطال كل الأحزاب فإن تأثير المجتمع أيضا يطالها جميعا ولكن بنسب متفاوتة بحسب طبيعة كل حزب..ويكون هذا التأثير كبيرا جدا على الأحزاب التقليدية التي تسعى إلى التوسع والانتشار بالجنوح نحو مسايرة المجتمع ومنافقته والتَّكيُّف معه حد التفريط بنقائها المدني..وفي الحالة اليمنية يتجلى هذا التفريط من خلال الاستقواء بالشق القبلي من المجتمع على شقه المدني تحت مسمى التحالفات التي غالبا ما تكون معيقة لبناء الدولة.

         وفي الغالب تكون مظاهر المسايرة والتكيف السمة البارزة في الأحزاب الدينية التي تمارس السياسة بخطاب ديني وعظي..وقد سارت على هذا النهج لأنه أقصر وأسهل الطرق لكسب قلوب الناس في مجتمع معظمه أمي..والهدف هنا هو الاستحواذ على القاعدة الشعبية وليس الارتقاء بالمجتمع وقيادته لإنتاج الدولة الديمقراطية..وبسبب هذا النهج تقف الأحزاب الدينية بكل طاقتها ضد محاولات التأثير على القاعدة الشعبية بخطاب سياسي مدني غير ديني..وهذا يفسر وقوعها في التطرف وتكفير وتسفيه وتحقير الخطابات المغايرة لخطاباتها.

         الأمر الآخر فيما يتعلق بالأحزاب اليمنية أن معظمها أحزاب كرتونية مفرخة..والأحزاب الفعلية هي في الغالب أحزاب غير ديمقراطية وغير برنامجية..وهي من هذه الناحية قبائل عصرية، إذا جاز التعبير، ورئيس الحزب هو عمليا شيخ الحزب الذي تمحضه القواعد ولاءها الأعمى وترى في شخصه تجسيدا للحكمة التي بدونها لا يمكن لبنيان الحزب أن يستقيم..وما لم تصحح الأحزاب أوضاعها الداخلية ديمقراطيا فإنها ستظل فاقدة للمصداقية فيما يتعلق بخطابها تجاه دمقرطة الدولة..فمثلما تؤثر الدولة غير الديمقراطية سلبا على الأحزاب فإن تأثير الأحزاب غير الديمقراطية على بناء مؤسسات الدولة وإدارتها يكون هو الآخر سلبيا وعلى نحو خاص في المراحل الانتقالية.

         وإذا تأملنا في الخارطة الحزبية اليمنية سنجد أنفسنا أمام واحد من أبرز التحديات المنظورة أمام مهام المرحلة الانتقالية..ومن بين مظاهر هذا التحدي بقاء الرئيس السابق حاضرا في المشهد السياسي على رأس المؤتمر الشعبي العام صاحب السلطة العميقة في البلاد..ولم يكن من سبيل للتغلب على هذا التحدي سوى أن يكون القائد ويسار النخبة مدركين لهذا التحدي ومقتنعين بضرورة إحداث إصلاحات واسعة تطال كل المنظومة الحزبية على نحو لا يستطيع معه المؤتمر الشعبي العام أن يغرد خارج السرب ويظل متمسكا بزعيم خلعه شعبه..وبما أن القيادة السياسية لم تكن مدركة ولا مقتنعة بضرورة هذه الإصلاحات فقد مثلت هي نفسها تحديا غير منظور أمام نجاح المرحلة الانتقالية بتركها الأحزاب السياسية الداعمة للثورة وللتغيير جامدة خارج دائرة الفعل الإيجابي..وقد استثمرت قيادة المؤتمر الشعبي العام هذا التحدي وذهبت تمارس دور المعارضة رغم احتفاضها ب 50 % من قوام الحكومة إلى جانب كونها صاحبة السلطة العميقة في البلاد..ومن الطبيعي والأمر كذلك أن تنجح مساعي الثورة المضادة في الانقلاب على التسوية السياسية وخارطة طريق المرحلة الانتقالية.

رابعا: حالة الوحدة الوطنية للبلاد:

         أحدثت حرب 1994 شرخا واسعا في الوحدة الوطنية يشكل اليوم أكبر تهديد  لوحدة البلاد التي أعلنت في 22 مايو 1990..وعندما اندلعت ثورة فبراير 2011 ساعدت إلى حد كبير على توحيد المزاج العام الرافض لنظام علي صالح ووفرت فرصا مواتية لترميم شروخ الوحدة الوطنية..لكن الإدارة السيئة للمرحلة الانتقالية تركت هذه الفرص تذهب أدراج الرياح..والإدارة السيئة فيما يتعلق بهذه الجزئية تندرج في إطار التحديات غير المنظورة التي استثمرتها الثورة المضادة للمزايدة السياسية على القضية الجنوبية..ونحن نعلم أن عبد الملك الحوثي اعترف على طريقته بهذه القضية ورفع رايتها ودعا القيادات الجنوبية في الخارج للعودة إلى صنعاء معززة "مكرمة للجلوس على طاولة الحوار" كما قال..وبصرف النظر عن موقفنا من هذا الاعتراف وهذه الدعوة فنحن أمام فراغ كبير وجدته الثورة المضادة لتتحرك داخله.

         إن القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة لم تفعل شيئا للقضية الجنوبية طوال المرحلة الانتقالية غير ذلك الاعتذار الهزيل الذي قدمته حكومة الوفاق على استحياء..والأنكأ من ذلك أن القيادة السياسية ذهبت تطرح القضية الجنوبية بشقيها السياسي والحقوقي على طاولة الحوار الوطني..والطبيعي أن يقتصر الحوار على الشق الأول فقط..أما الشق الثاني فليس من الجائز أن يكون موضوعا للحوار لتعلقه بحقوق ثابتة لا تحتاج سوى إلى سلسلة من القرارات الرئاسية والحكومية الكفيلة بإعادة الحقوق إلى أهلها..فعلى سبيل المثال هناك جيش بكامله جرى إحالته إلى التقاعد القسري بإجراءات مهينة وحقوق منقوصة وحكم على قادته وضباطه أن يتحولوا إلى عاطلين فقراء مجبرين على ممارسة مهن لا تليق بأناس تخرجوا من أرقى الأكاديميات العسكرية..وكل هذا لأنهم جنوبيون غير مضموني الولاء لنظام علي صالح الذي قلَّد أقرباءه من كل الدرجات أعلى المناصب العسكرية وأطلق أيديهم للعبث بالمليارات، وكأن اليمن مزرعة خاصة بهم..وأثناء ثورة فبراير 2011 كان ثوار الساحات يضحون ويسترخصون الموت لاعتقادهم أن ثورتهم ستعيد الحقوق إلى أهلها وسترمم الشروخ التي أحدثها علي صالح في جدار الوطن والجروح التي مزقت نسيجه الاجتماعي..لكن رياح السياسة أتت بما لا تشتهي سفن الثورة..فالقائد ومعظم يسار النخبة شركاء في حرب 1994 وغير مؤهلين لمعالجة آثارها.

        

         والحديث عن حالة الوحدة الوطنية يستدعينا تلقائيا للذهاب إلى محافظات شمال الشمال التي يصنفها البعض كحاضنة شعبية لانقلاب الثورة المضادة، في مقابل بقية محافظات الجمهورية التي ترفض هذا الانقلاب وتقاومه..وإذا صح هذا التصنيف فنحن أمام انقسام مجتمعي كبير على أساس مذهبي وجهوي..ولكن كيف نفسر مشاركة هذه المحافظات في ثورة فبراير 2011 وتقديمها شهداء قضوا في ساحات الحرية والتغيير من أجل إسقاط نظام علي صالح؟.

         في اعتقادنا أن تصنيف محافظات شمال الشمال على أنها حاضنة شعبية للثورة المضادة لمجرد أنها محافظات زيدية ينطوي على قدر كبير من الإجحاف..ولا يمكن التسليم بصحته إلا إذا اعتبرنا مقاومة المحافظات الأخرى للثورة المضادة ناجمة عن سنيَّتها..وفي هذه الحالة يجب توصيف ما يجري في البلاد على أنه احتراب طائفي مكشوف..ونحن لا نرى هذا التوصيف صائبا البتة رغم وجود من يستدعي هذا البعد ويعمل على تغذيته من الجانبين مختزلا الوطن في المذهب والمنطقة كوسيلة من وسائل الحشد والتعبئة في بلد تعثر مشروعه الوطني وفشلت نخبه في إنتاج دولة لكل مواطنيها.

         والحقيقة أن محافظات شمال الشمال شهدت خلال المرحلة الانتقالية حالة فراغ استثمرته الثورة المضادة للتحرك من خلاله بخطاب تحريضي غير معلن أثار في أبنائها الخوف والفزع من المستقبل..ومؤدى هذا الخطاب أن أبناء هذه المحافظات سيتعرضون للتهميش ولن يجدوا فرص عمل للعيش الكريم حتى في الجيش الذي ينتمي نحو 80 % من أفراده وضباطه إلى هذه المحافظات..وضاعف من هذا الخوف التشويه المتعمد الذي طال مفهوم الدولة الاتحادية في ظل تفشي الأمية وتغييب دور وسائل الإعلام الرسمي، وعلى نحو خاص المسموع والمرئي..ثم تضاعف هذا الخوف أكثر بسبب توزيع الأقاليم على النحو الذي حاصر محافظات شمال الشمال في جغرافيا مغلقة انتزعت منها محافظة حجة بسبب انفتاحها على البحر..والذين فعلوا هذا فعلوه بذهنية صراعية لمحاصرة الحوثية، وليس بذهنية وطنية تتوخى بناء دولة..وبهذا الفعل بدا كما لو أن حكما قد صدر على أبناء هذه المحافظات بأن يدفعوا ثمن وجودهم في جغرافيا احتضنت خلال القرون الوسطى الإمامة الهادوية بمحمولها السلالي العنصري..وبدلا من التفكير بإخراج  هذه الجغرافيا من تلك القرون وإدماجها في الفضاء الوطني الأوسع قرر مهندسو الأقاليم محاصرتها هناك لتكون إقطاعية مملوكة حصرا لمراكز قوى استمرأت المركزية الإلحاقية..وما الحوثية إلا أحدى تعبيرات هذه المركزية، ولكن ببعد سلالي عنصري تجاوزه الزمن معرفيا وأخلاقيا.

         إن اليمن كله يدفع ثمن تعثر المشروع الوطني الذي بشرت به ثورتا سبتمبر وأكتوبر..لكن محافظات شمال الشمال دفعت الثمن الأكبر بسبب استخدامها مخزونا عسكريا لصالح نظام 5 نوفمبر 1967 الذي لولاه ما آل حكم البلاد إلى رجل نكرة كثير عليه أن يكون مجرد ضابط صغير في الجيش..وبسبب عسكرة هذه المحافظات أصبحت تستحوذ على معظم الفائض الاقتصادي للبلاد الذي يذهب لصالح حفنة من المتنفذين بينما لا يذهب لصالح التنمية المحلية إلا القليل القليل..وكان من نتائج ذلك أن معظم أبناء هذه المحافظات وجدوا أنفسهم غير قادرين على المنافسة القوية في سوق العمل..وقد اتكأت الثورة المضادة على هذه الحقيقة لإقناعهم أنهم سيكونون ضحايا التغيير القادم عبر الحوار الوطني..والمؤسف أن القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة لم تبعث برسالة تطمين واحدة إلى أبناء هذه المحافظات تقنعهم بأن الآتي سيكون أفضل بما لا يقاس من الماضي، وأن دولة لكل مواطنيها هي التي ستوفر لهم فرص الحياة الكريمة بصرف النظر عن: من ومن أين يكون رئيسها؟.

         تلك إذن حالات الدولة والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والوحدة الوطنية للبلاد..وجميعها تحديات لا تسمح بالحديث عن فترة إنتقالية مثالية يكتفى خلالها بالتوافق على دستور جديد والذهاب إلى إنتخابات..والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا لم تشهد الفترة الانتقالية إصلاحات حقيقية ولو بالحدود الدنيا الإسعافية التي يتعذر معها الانقلاب على شرعية التوافق الوطني؟.لماذا تمكنت الثورة من تنفيذ انقلابها وتسويق نفسها كثورة بديلة ارتدت ثوب الشرعية الثورية؟.في اعتقادنا أن الأسباب تكمن في العامل القيادي الذي قاد المرحلة الإنتقالية..وحتى لا يكون هذا حكما مرسلا سنفرد لكل من القائد ويسار النخبة عنوانا جانبيا.

أولا: القائد (الرئيس الانتقالي).

         أصبح هادي رئيسا انتقاليا للبلاد بتوافق وطني ممهور بتزكية الشعب..وتم هذا في مناخ ثورة شعبية عارمة مطالبة بإسقاط نظام علي صالح وبناء دولة لكل مواطنيها..ومن الطبيعي أن يتوقع الشعب الثائر من رئيسه الانتقالي تحقيق أهداف الثورة في التغيير والطلاق مع النظام القديم..والشعب عندما يتوقع هذا من القائد فإن جاهزيته تكون في أعلى مستوياتها لدعمه وتأييد خطواته والانتصار لقراراته..وما على القائد إلا أن يبقى في حالة تواصل دائم ومنظم مع الشعب..فهل استثمر القائد الحالة الثورية القائمة واهتم بالتواصل مع الشعب الثائر المتطلع للتغيير؟

         وعلى المستوى الإقليمي والدولي حظي هادي بدعم ملحوظ لم يحظ به رئيس يمني من قبل..ومن مظاهر هذا الدعم غير المسبوق أن مجلس الأمن جاء بكامل قوامه إلى اليمن وانعقد في صنعاء بحضور الأمين العام للأمم المتحدة..وكان سفراء الدول العشر على تواصل شبه يومي مع هادي..فضلا عن تعاون المبعوث الأممي جمال بن عمر الذي رأيناه منذ بداية المرحلة الانتقالية عرضة للتشكيك بنزاهته وحياديته من قبل الآلة الإعلامية المحسوبة على الرئيس السابق حد قولها إنه يتصرف كمندوب سامي.

         والبرنامج السياسي المطلوب إنجازه خلال المرحلة الإنتقالية وتضمنته المبادرة الخليجية قبلت به – نظريا على الأقل – كل أطراف التسوية السياسية الموقعة على المبادرة، بما في ذلك صالح وحزبه..وهو من هذه الناحية ليس برنامج هادي وإنما برنامج توافقي ملزم لكل الأطراف..وهذا عامل قوة للرئيس الانتقالي يتعذر معه تبرير أي تقاعس في الإنجاز والتنفيذ.

         ولكن هل كان الرئيس هادي مؤهلا على المستوى الشخصي لاستثمار هذه المتاحات والفرص؟.النتيجة التي آلت إليها الأمور في البلاد تقول إنه لم يكن مؤهلا..ومع ذلك من غير الجائز الحكم على أدائه إلا من خلال التفاعل المتبادل بينه وبين يسار النخبة.

ثانيا: يسار النحبة.

         سبق وأن عرفنا يسار النخبة بأنه ذلك الجزء من النخبة الذي شارك في الثورة ودعمها وآزرها وأعلن تأييده لها أو على الأقل رحب بها واستحسنها..ومعظم يسار النخبة كان مؤتلفا في إطار أحزاب اللقاء المشترك، ثم اتسعت دائرته في إطار المجلس الوطني لقوى الثورة..وبما أن هذا الجزء من النخبة غير متجانس سياسيا إلا من حيث موقفه الإيجابي من الثورة فمن غير الجائز محاكمته ككتلة صماء..لذلك سننتقل في الحديث عن يسار النخبة من التعميم إلى التخصيص مبتدئين بالتعرف على مكوناته:

أولا: مكوِّن التجمع اليمني للإصلاح:

1 – محمد عبد الله اليدومي (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)

2 – عبد الوهاب الآنسي (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)

3 – علي محسن الأحمر (صاحب سلطة عسكرية ومالية ومستشار الرئيس)

4 – حميد بن حسين الأحمر (صاحب سلطة مالية ونفوذ قبلي)

5 – عبد المجيد الزنداني (صاحب سلطة دينية ورئيس هيئة علماء اليمن ورئيس جامعة الإيمان)

6 - مدير مكتب رئاسة الجمهورية.

7 - وزير الكهرباء.

8 – وزير التربية والتعليم.

9 – وزير الإعلام.

10 – وزير حقوق الإنسان.

11 – وزير العدل.

12 – وزير التخطيط والتعاون الدولي.

13 – وزير الداخلية.

14 – وزير المالية.

ثانيا: محمد سالم باسندوة (رئيس الحكومة).

ثالثا: مكوِّن الحزب الاشتراكي اليمني.

1 – ياسين نعمان (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)

2 – وزير الشئون القانونية.

3 – وزير النقل

4 – وزير دولة.

رابعا: مكوِّن الوحدوي الشعبي الناصري.

1 – سلطان العتواني (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)

2 – وزير الإدارة المحلية

خامسا: مكوِّن التجمع الوحدوي.

1 –وزير الثقافة.

سادسا – مكوِّن حزب الحق.

1 – حسن زيد (أمين عام الحزب ووزير دولة)

2 – وزير دولة.

ثامنا: مكون إتحاد القوى الشعبية.

1 – وزير المياه والبيئة.

تاسعا: مكوِّن حزب البعث.

1 – عبد الحافظ نعمان (أمين عام الحزب ووزير التعليم المهني)

عاشرا: مكون إتحاد الرشاد السلفي.

1- العامري (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية)

2 – عبد الوهاب الحميقاني (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

حادي عشر: مكوِّن حزب العدالة والبناء.

1 – أبو لحوم (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية)

2 - عبد العزيز جباري (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

ثاني عشر: المكون الحراكي المشارك في الحوار.

1 – محمد علي أحمد (رئيس المكون ورئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني)

2 – ياسين مكاوي (عضو الحوار الوطني ومستشار الرئيس).

ثالث عشر: مستشارون:

1 – عبد الكريم الإرياني ( المؤتمر الشعبي)

2 – فارس السقاف (مستشار ثقافي للرئيس)

3 – محبوب علي (مستشار إعلامي للرئيس)

رابع عشر: مقربون من هادي.

1 – وزير الدفاع

1 – أمين عام مؤتمر الحوار الوطني.

          وهذه هي مكونات النخبة التي كان معولا عليها مع الرئيس هادي أن تتعاون وتتظافر من أجل نجاح الفترة الانتقالية في تحقيق أهدافها..هل تفاعلت مع القائد إيجابيا؟..هل كانت في تفاعلها مع القائد منضبطة لقيم ومثاليات المجتمع  ومخلصة لتطلعات الشعب؟..هذا موضوع الجزء الرابع من هذه القراءة.

 

قراءة 2820 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة